يشهد تاريخ مصر،إنه لم يكن تاريخ مستمر من الصراعات بين المسلمين والمسيحيين،ولم يكن في نفس الوقت تاريخ مثالي من التواصل ،بل كان في تقديرنا تاريخ من التفاعل يتحكم فيه السياق المحيط وطبيعة اللحظة التاريخية المواكبة.وعليه نجد انه متى كانت هذه اللحظة التاريخية تتسم بالتقدم والنهوض كان ذلك ينعكس إيجابا على المجتمع المصري وعلى العلاقة بين المصريين من المسلمين والمسيحيين،والعكس صحيح.ومابين النهوض
والتخلف تعايش المصريون من خلال التفاعل الاجتماعي والتعددية الواقعية.ولكن منذ أربعة عقود،تشهد مسيرة العلاقات الإسلامية المسيحية، توترا مستمرا. فمنذ حادثة أخميم 1970 يكاد لا تمر سنة تقريبا دون حدوث واقعة تؤجج هذا التوتر،وتدفع إلى المزيد من"التجزئة الرأسية" في جسم المجتمع،أي تقسيم مصر على أساس ديني.والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة،لماذا التوتر على مدى هذه العقود ؟، وللإجابة عن هذا السؤال، نقترب من أمرين هما: "تاريخ" و"جغرافيا" التوتر الديني.
(أ) تاريخ التوتر الديني
كان الأطراف الرئيسيون(الدولة ، التيارات السياسية الرئيسية،رموز الأقباط:بورجوازية قبل 1952ثم التكنوقراط والإنتلجنسيا بعد1952،الكنيسة منذ مطلع السبعينيات) حتى ما بعد نهاية التسعينيات ملتزمون بالحد الأدنى مما اتفقت عليه عناصر الحركة الوطنية المصرية في التعامل مع ملف العلاقات الإسلامية المسيحية، كونها شأنا داخليا ويحتاج إلى حساسية من نوع خاص في التعامل.وكانت الحركة الوطنية قبل 1952 قادرة على استيعاب هذا الملف من خلال الجهد المشترك من أجل الاستقلال الوطني وتحقيق العدل،فكان الأقباط منخرطون في جسم الحركة الوطنية بتنوعاتها،وحضور سياسي برلماني يقترب من العشرة في المائة من خلال الانتخاب المباشر وخاصة في التي يفوز فيها حزب الوفد بالأغلبية،وكانت البورجوازية القبطية تمارس دورها كقيادات مدنية في المجال السياسي.أما بعد قيام ثورة يوليو 1952 ولاعتبارات كثيرة ، منها غياب التعددية السياسية والنظر للأقباط كجماعة سياسية – دينية،خاصة مع إقرار مبدأ التعيين بالرغم أن النص الدستوري لم يحدد ديانة المعينين إلا أن العرف جرى على أن يكونوا من الأقباط،هذا بالرغم من تحقق المواطنة في بعدها الاجتماعي للطبقات الوسطى والدنيا من المصريين من دون تمييز، فإننا نجد النظام السياسي وقد بدأ يتعامل مع الشأن القبطي من خلال وسطاء وهما تحديدا:التكنوقراط الأقباط والإنتلجنسيا القبطية.وفضل النظام لاحقا منذ السبعينيات أن يتعامل مع الكيان الديني مباشرة.
وخلال العقود الأربعة الماضية، فشلت مؤسسات الاندماج الوطني في إيجاد " تكافلات أفقية " جامعة للمصريين(تكافلات المصالح المادية لمختلف الفئات الاجتماعية الممثلة للنقابات والاتحادات والروابط والأندية...الخ) وقادرة على بناء جماعة سياسية قومية. ولكن ما حدث هو أن عادت مكونات الجماعة إلى الخصوصيات الصغيرة حيث حلت التكافلات الرأسية الفرعية محل الوظيفة الاندماجية للدولة ،من خلال تقديم خدمات علاجية وتعليمية ومد شبكة أمان اجتماعي،وهي الأدوار التي انسحبت منها الدولة والتي من خلالها يتحقق الاندماج.
وتعرضت مصر، أثناء ذلك، لتأثيرات ثقافية وافدة(من سياقات اجتماعية لم تختبر العلاقات الإسلامية المسيحية) حملت من ضمن ما حملت فقها مغايرا كان سقفه أقل بكثير مما بلغه الفقه في الخبرة المصرية، أعاد إثارة العديد من الأسئلة التي كان الفقه المصري كان قد أجاب عنها عبر العصور على أيدي فقهاء معتبرين.كما تعرضت لتدخلات خارجية بغرض إعمال المعايير الدولية في مجالي حقوق الإنسان والأقليات. وبنهاية التسعينيات، تعدد اللاعبون وتكاثرت الاتجاهات حتى في داخل الجهة الواحدة، وبروز إعلام وتعليم و ثقافة تكرس التقسيم الديني، واللجوء إلى آليات تتبع منهج التقابل حيث الإصرار على وجود الباحث القبطي والباحث الإسلامي، والنواب الأقباط والنواب الإسلاميون، وهكذا.
(ب) جغرافيا التوتر الديني:
كانت هناك فرضية تقول بأن التوتر الديني يكثر في مناطق بعينها ولأسباب تفرضها طبيعة هذه المناطق، وتعددت الدراسات التي تصب في هذا الاتجاه. ودعم هذه الفرضية تركز العمليات التي كانت تقوم بها مبكرا الجماعات الجهادية في الصعيد.ولكن مع مرور الوقت وجدنا أحداث التوتر الديني وقد امتدت إلى كل بقعة من بقاع مصر، تقريبا، إلى العاصمة و منطقة بحري والإسكندرية من خلال أحداث متتالية متنوعة الأشكال والأدوات. كما يمكن أن نلحظ أنه في المناطق التي يطلق عليها المناطق "الراقية"،وان لم تكن قد تعرضت " للتوتر الصلب" الذي تستخدم فيه القوة المادية المباشرة من عنف واحتجاج وتجريح،إلا أنها قد تعرضت لما يمكن تسميته "بالتوتر الناعم"، حيث يتم تكوين رؤى وتصورات حول الذات والآخر تصب في اتجاه الفرقة وإن بدرجات متفاوتة.ومن اللافت أيضا أن نجد في هذه المناطق والتي بها من الكيانات مثل النوادي الرياضية العريقة –مثلا- التي تأسست في سياق النهوض المدني المصري في مطلع القرن العشرين، وقد أصبحت تحمل قدرا من التوتر وإن كان ناعما،وهو ما يتمثل في صعوبة نجاح الأقباط في مجالس إدارات هذه الأندية. إن هذا الامتداد الجغرافي للتوتر لهو أمر جدير بالتأمل والدراسة لأنه يتجاوز حصر التوتر في مناطق ولأسباب بعينها، وأن جغرافيا التوتر الديني قد امتدت في جسم مصر المحروسة، وباتت كل بقعة من بقاعها تجمع بين الأقباط والمسيحيين، مشروع محتمل للوتر.
(ج) الحصاد: المواطنة المحاصرة
في ضوء ماسبق يمكن رصد ما بلغته العلاقات بين المسلمين والأقباط بعد ما يقترب من 40 سنة من التوتر،وذلك كما يلي:
(1) العنف الديني المباشر.
(2) اتشاح أزمات الواقع المجتمعي المحتقن بالرداء الديني إذا ما كان طرفا هذه الأزمة أو تلك، أحدهما مسلم والآخر مسيحي.
(3) الإشكاليات الخاصات بتغيير العقيدة.
(4)توظيف المشاعر الدينية المتأججة لدى كل طرف، لاعتبارات كثيرة معقدة، متى شعر أحد الأطراف بأن هناك ما يمس معتقده الديني وهو ما ترتب عليه انطلاق ما يعرف " بالسجال الديني " بتدفق غير مسبوق في تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية،مستفيدا من ثورة الاتصالات،وما تتيحه من إمكانات هائلة في التواصل والتأثير.
(5) الإشكاليات الخاصة بتكافؤ الفرص.
(6) الثقافة المانعة لتوفر مناخ طبيعي للحرية الدينية.
وبالأخير حوصرت المواطنة كطرح ناجع للإشكاليات التي تواجه العلاقات الإسلامية المسيحية،بين الطرحين :"الأقلوي" و"الطائفي"،حيث الأول يكرس العلاقة ذات الطابع الديني بين المصريين: المسلمون والمسيحيون،وما يترتب على ذلك من أن تصبح حركتهم في المجال العام تنافسية على أساس ديني،وهو أمر يختلف بالمطلق عن أن يستلهم المصريون الدين في حركتهم المشتركة معا بصفتهم المواطنية في المجال العام. والثاني الذي يستعير التراث العثماني حيث هناك دولة حاضنة للطوائف والملل والأقليات،تماما مثل ما عبر الأستاذ أنور الهواري في لفتته الذكية في مقاله "أبناء الطائفة المسيحية"،المفارقة أن مصر تاريخيا لم تعرف نظام الملة وقت الإمبراطورية العثمانية مثلما عرفته منطقة الشام، لاعتبارات كثيرة(لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة أبو سيف يوسف في الأقباط والقومية العربية،عزيز سوريال عطية في تاريخ المسيحية الشرقية،محمد عفيفي في الأقباط في العصر العثماني،وكاتب هذه السطور في الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط).وهكذا بدلا من الدفع في اتجاه المواطنة،نجد نزوعا أقلويا وجنوحا طائفيا،وبالأخير تكون المواطنة هي الخاسرة بسبب حصارها.والمثير في هذا السياق أن يتم توظيف المواطنة لتمرير الطائفية أو الأقلوية،وهي نقيض للاثنين،حيث المواطنة هي الإطار الجامع للفرعي(راجع كتابنا المواطنة والتغيير).
لهذا فليس بالمستغرب للمتابع لأحداث التوتر الديني على مدى عقودها الأربعة أن أوجدت مع تكرارها،" تكلسا مجتمعيا"يعوق التغيير،وأنتجت نكوصا لما أسميته منذ وقت مبكر إلى "دولة ما قبل المواطنة"،والشاهد على ذلك تراجع أساليب المعالجة،فمن لجنة برلمانية لتقصي الحقائق إلى جلسة صلح عرفية، ومن احتكاكات ضيقة النطاق إلى حملات جماهيرية جهادية كانت جاهزة للتحرك بكل سهولة،هذا ما تعكسه واقعة العياط بعد أربعة عقود من التوتر.
(د) ما العمل؟
وبعد، هل يمكن أن تواصل الجماعة الوطنية مسيرتها وهي تموج بالتوتر، ألا تكفي أربعة عقود من التوتر المستمر، ألا يمكن أن نستهل العقد الخامس وقد تجاوزنا التوتر. يقيني في ضوء آلاف الأسطر التي سطرها كثيرون ممن تناولوا التوتر الديني بالرصد والتشخيص والعلاج أن المدخل الملائم هو إدراك أن التحديات التي تواجهنا لا تفرق بين أحد،وأن هناك العديد من الأزمات الجديرة بان أن ننشغل بها معا لأنها تمثل تهديدا حقيقيا لمستقبل هذا الوطن:من تناقص للموارد المائية،ولمصادر الطاقة،والبطالة،والأمية،والزيادة السكانية،وضعف مستويات التعليم والصحة،…الخ،ولا ينفي ما سبق أن تتبنى القوى الوطنية سرعة توفير تشريعات قانونية لامتصاص الاحتقان –تأخرت كثيرا- وذلك فيما يخص:بناء دور العبادة،وتنظيم حرية العقيدة كما تنص المادة 46 من الدستور،وابتكار صيغ تمثيلية تتيح الحضور الفاعل للجميع،والتخديم على ما سبق ثقافيا وإعلاميا،لتوفير المناخ المناسب كي تكون هذه التشريعات قابلة للتنفيذ... هذا هو السبيل لتحرير المواطنة من الحصار.