’’المواطنيزم‘‘...(16): القيمة التاريخية لمراجعات اليسار الأوروبي

المواطينزم الزيارات: 1018

جوهر "النزعة المواطنية الجديدة‘‘؛ التي نتحدث عنها على مدى أسابيع، تحاول التأكيد على أن هناك زخما أوروبيا على مستويين هما: أولا: الحيوية الفكرية، وثانيا: الحركية المجتمعية...وأن هذا الزخم لا يتمحور أو يقتصر حول تيار بعينه، وإنما يمتد إلى كل التيارات الفكرية والسياسية والمطالبية والحقوقية والفئوية...

في هذا المقام، بزغت الحركات والأحزاب الجديدة التي تعكس كل الاتجاهات:

اليمين واليسار، والخضراء، والمطالبية، والاحتجاجية؛ لتنافس، وتناطح، وتحل محل القوى السياسية القديمة.وهي التي وصفناها بالحركة المواطنية الجديدة التي توجهها "نزعة مواطنية"أو “Citizenism”؛ المتجاوزة الفكرية/الحركية التقليدية المتعارف عليها. ودللنا على ذلك من خلال التغيرات الجذرية في الخريطة السياسية المتعارف عليها تاريخيا في الكثير من بلدان أوروبا. ثم قاربنا الأفكار الخضراء وكيفية التعبير عنها حركيا/حزبيا ونجاحاتها الرصينة والثابتة. ثمقدمنا لليسار ما بعد الجديد: "الإنساني" و"خريطته الفكرية الحركية/الحزبية" و"لماذا تغير وفي ماذا"...وقبل أن نبدأ الحديث عن اليمين الجديد في أوروبا في مقالنا القادم. نتمم حديثنا عن اليسار الأوروبي ما بعد الجديد بقيمة مراجعاته التاريخية وأثرها الفكري والسياسي ومستقبله...

لماذا ينتعش التراث الماركسي مجددا في أوروبا اليوم؟...هذا هو السؤال المحوري الذي يتصدر مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب: "التراث الماركسي والبحث عن اليسار الجديد"(الصادر في 2019)“The Marxian legacy: The Search for the New Left”؛ وتجيب المقدمة بأن مفكري اليسار المعاصرين انفتحوا على زمنهم وما طاله من تغيرات جذرية ــ لاتزال جارية لم تنته بعد ــ في شتى المجالات. لم يركنوا إلى المقولات التاريخية للأدبيات الماركسية وإنما استعادوها للاشتباك مع الحاضر الذي ــ يقينا ــ يختلف كليا عن الحاضر.

ومن خلال المواجهة المركبة بين مقولات الماضي ومستجدات الحاضر من جهة، وبين مستجدات الحاضر وتصورات المستقبل من جهة أخرى، تتبلور رؤية اليسار ما بعد الجديد. أو التيتصفها بعض الأدبيات بالتيار "الجذري النقدي"“Radical Critical” Trend. وأهمية ما يقوم به هذا التيار هو "استدراكه" لأخطاء من سبقه من مفكرين ممن: أولا: اختطفوا الأفكار لصالح الأحزاب الشمولية مثل يسار الماركسية السوفيتية والماركسية الماوية. أو ثانيا: أهملوا الفلسفة والفكر لصالح السياسة المباشرة مثل جماعات الفوضى السياسية. أو ثالثا: النصوصيون الذين وقفوا عند النصوص الأولى وقدسوها دون إعمال "النظرية والمنهج"(بحسب المفكر الكبير المستشار عادل غنيم في كتابه ماركسية القرن الحادي والعشرين: ماركسية عصر ما بعد الحداثة، الصادر عن دار الثقافة الجديدة، 2008) مع مستجدات الواقع. لذا عجزوا(بحسب عادل غنيم أيضا) عن حل المسألة القومية، والمسألة الديمقراطية، ومواجهة الليبرالية الجديدة المتمددة.

لهذا أنطلق اليسار ما بعد الجديد من الواقع الذي اتسم "باللامساواة" الاقتصادية وأدى إلى حراك شبابي جارف احتجاجا على أنهم صاروا ضحايا غيبة العدالة. في هذا الإطار، عمل مفكرو اليسار ما بعد الجديد على ضرورة تجديد الماركسية بأن "تتفحص نفسها" و"تدرك جديد الواقع" في آن واحد. فالعالم الجديد خاصة بعد دخوله إلى الزمن الرقمي من جهة، وبعد معاناته من تداعيات الأزمةالاقتصادية من جهة أخرى قد تغير جذريا.

ومن ثم فرضت عناصر هذا التغير نفسها. ومن أهم التغيرات التي باتت محل بحث وجدل وتفسير ومعالجة نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أولا: تغير طبيعة الدولة في العالم المعاصر. ثانيا: عولمة عملية الانتاج وما يترتب على ذلك على مستوى الداخل المحلي لكل دولة على حدة من جانب وعلى مستوى علاقات الهيمنة والتبعية بين الدول من جانب آخر وكيفية الفكاك من ذلك. ثالثا: صعود "إمبرياليات" متجددة ومتحورة الأشكال غربية ومن خارج العالم الغربي. رابعا: توظيف الليبرالية الجديدة لثورة الاتصالات في تعميق اللامساواة. خامسا: انتشار العنف/الإرهاب الديني والقومي العابر للحدود. سادسا: انتشار استراتيجيات التفكيك والتشظي للدول وفقا للجغرافيا السياسية للثروات الطبيعية. سابعا: تراجع مستويات المعيشة.ثامنا: الإشكاليات الثقافية الناتجة عن ما بعد الحداثة الأوروبية. تاسعا: الانتباه الجدي للاحتياجات الأساسية الإنسانية.

في هذا الإطار، انطلق اليسار "يعيد بناء نفسه" إذا ما استعرنا عنوان كتاب يحمل نفس الاسم((Rebuilding The Left، والذي كتب وقت الأزمة المالية الكارثية في 2008،للباحثة السياسية التشيلية "مارتا هارنيكر"،(زاملت الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير)، والتي دأبت على متابعة حركة اليسار ما بعد الجديد ــ من خلال عدة كتب هامة ــ ورصد انفتاحه الحركي على عموم المواطنين وتبني همومهم والإحساس بمعاناتهم. وإبداع بدائل حقيقية قابلة للتطبيق. وذلك من خلال مشاركة حقيقية للدفع بعملية التقدم المجتمعي وفي القلب منه الإنسان/المواطن بإشباع حاجاته المادية والروحية على السواء من ناحية. ومن ناحية أخرى دعم جهده نحو إضفاء معنى وقيمة لذاته ولمن حوله ولمجتمعه ووطنه.

ولعل أهم ما يمكن أن نشير إليه هو التأثير الإيجابي لهذا التيار الذي يتجلى في الاجتهاد الأكاديمي والإبداع الفكري الذي يتجلى في عشرات السلاسل الفكرية التي تعالج وتشتبك مع عديد القضايا(لا يسمح المجال بذكر عناوين هذه السلاسل التي أنتجت مئات الكتب والمؤلفات لمفكرين مجددين يمثلون جيلا جديدا أكثر انفتاحا ومعرفة لم يتعرف عليه الفكر العربي بعد.

وبعد، نتابع في مقالنا القادم الحديث عن تيار آخر من تيارات المواطنية الجديدة في أوروبا ألا وهو اليمين الجديد...

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s