انطباعات رحلة أوروبية

المقالات

ثلاثون عاما تفصل بين رحلتى الأخيرة إلى أوروبا وبين السفر شمالا للمرة الأولى فى حياتى، والأمر الذى يجب إعلانه بشكل واضح ومباشر هو أن الفجوة باتت كبيرة جدا بيننا وبين الشمال على كل الأصعدة.

لم أشعر بذلك فى رحلتى إلى فنلندا عام 1984 للتدريب على جهاز «الفوتوميتر» (جهاز لقياس المواد الكيماوية ضوئيا كمبيوتريا)، كمتخصص فى مجال الكيمياء التى كنت أعشقها وقررت أن أدرسها فى ذاتها بالرغم من حصولى على مجموع يمكننى أن أدرس تخصصات أخرى تتوافق مع هواياتى واللغة التى درستها فى مدرسة الإرسالية الإنجليزية ذلك لأننى كنت أومن بأن الكيمياء أساس التقدم وأنه من الضرورى الفصل بين الدراسة والهواية بالطبع لم يستمر ذلك كثيرا وسرعان ما هجرت الكيمياء إلى التنمية والعلوم السياسية والعمل بعدة مؤسسات دولية وإقليمية شكلت مسارا مغايرا للمسار الأول، كانت فنلندا آنذاك تبدأ طريق تقدمها فى مجال التكنولوجيا، وبالرغم من أنها كانت تحت تهديد يومى من قبل الاتحاد السوفييتى القابع على حدودها، فإنها استطاعت أن «تفلت» منه، وتطرق مجالات غير مسبوقة، فكانت رائدة فى مجال المحمول ثم انطلقت انطلاقتها الكبرى بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى، وفى كثير من التكنولوجيات المعقدة، وآنذاك لم أكن أجد أن الفجوة كبيرة فنحن لدينا قاعدة صناعية ثقيلة معقولة يمكن أن تتطور وخصوصا أن مطلع الثمانينيات شهد آمالا وطموحات فى إمكانية الانطلاق. بيد أنه مع كل رحلة أوروبية كنت أشعر بأن الفجوة تزداد. وخلال 30 سنة اتسعت الفجوة إلى حد يستوجب منا التوقف.

•••

كان ذلك فى خلفية الذهن وأنا أترك القاهرة نوفمبر الماضى متجها إلى ألمانيا وهولندا لمدة 15 يوما لحضور عدة ندوات من جهة وعمل مقابلات نظمها لى سفيرنا فى هولندا معالى السفير طاهر فرحات الذى وفر لى الكثير مع طاقم السفارة الذى يضم نخبة من شباب الدبلوماسيين الواعدين السفير خالد الأبيض والأستاذة رضوى خليل. وتعد مدة طويلة بالنسبة لى حيث إننى تاريخيا لا أطيق أن أترك مصر أكثر من أربعة أيام على أقصى تقدير. ولكنى سافرت هذه المرة وعندى رغبة عارمة ان أعرف أين أوروبا بعد 30 عاما، وبالطبع يعكس هذا السؤال سؤالا مقابلا منطقيا هو أين نحن؟ إنه السؤال القديم الجديد: لماذا يتقدم هؤلاء؟ ولماذا نتخلف نحن؟ أنه سؤال النهضة الذى طرحه روادها الأول.

كانت البداية اللافتة وكأنها مرتبة، أننى دخلت مثلما تعودت إلى المكتبة الكبيرة فى مطار أمستردام فوجدت أمامى مجلة مصقولة بالألوان من القطع الكبير يبلغ عدد صفحاتها أكثر من 130 صفحة، مخصصة للاحتفال بمرور 100 سنة على الحرب العالمية الأولى التى اندلعت فى 1914، اشتريتها فورا وتصفحتها ووجدت كيف تحتفى القارة الأوروبية بمناسبة من هذا النوع. صور نادرة للشخصيات المؤثرة فى الحدث، وللأسلحة التى كانت تستخدم آنذاك، وتحليلات مركزة وخرائط وجداول متنوعة. وبمجرد قراءة هذا العدد وجدتنى شعرت بأن الخبرة التاريخية المتراكمة فى أوروبا قد علمتهم أن مواجهة الواقع هى الطريق لإيجاد حلول ومن ثم التقدم. فمعاهدة وستفاليا فى 1648 والتى أنهت حرب الثلاثين عاما، أسست لهذا المنهج. وتذكرهم للحرب العالمية الأولى ليس مناسبة احتفالية وإنما هو مناسبة للتعلم واستعادة الدروس المستفادة وتجديد المعارف ووضع الخطط والسياسات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

•••

الإقرار بالمشكلات هو أول خطوة لحلها، والحوار المجتمعى هو الضمان للابتكار. وعليه تجد كل الموضوعات والملفات قيد الدراسة: الشخصيات والقضايا والتاريخ والمؤسسات.. إلخ. الكلمة السحرية/ المفتاحية لتقدم القارة الأوروبية وتجددها بالرغم من قدمها هى:

• إعادة النظر والمراجعة، حيث لا توجد محاذير ولا تابوهات: كل شىء وأى شىء خاضع للبحث ويمكن أن تلمح ذلك فى أكثر من مظهر:

أولا: الحوارات البحثية بين الأجيال؛ وجدت هذا جليا فى مناقشات الندوة التى حضرتها فى ألمانيا فى إطار الحوار العربى الألمانى فى دورته الثامنة، الذى يلتئم بين أكاديمية لوكوم ومنتدى الحوار بالهيئة القبطية الإنجيلية، حيث عكس التفاوت الجيلى والتعدد التخصصى من مظاهر تجدد الأوطان. وأن الوراثة فى مجال الأكاديميا أو غيرها لا يمكن إلا أن تؤدى إلى التيبس والتكلس والخروج من العصر. لا يوجد أسود وأبيض فى حقل المعرفة وإنما هناك رؤية مركبة للتعامل مع القضايا. فنجد فيبر حاضرا فى جدل مع ماركس، وظلال فوكو وبورديو موجودة فى التحليلات.. إلخ. الساحة مفتوحة أمام كل الأفكار: فتجد فى إطار المئويات: مجلد «الإمبراطور المواطن: نابليون فى السلطة» 800 صفحة حول دور الشخص فى التاريخ ونتائجه»، كما تجد مؤرخا كبيرا مثل نورمان ديفيز يصدر مرجعه المهم: «ممالك زائلة» «”Vanished Kingdoms حيث يناقش اختفاء الأسر الملكية فى أوروبا وأسباب ذلك وتوقعه أن يمتد ذلك إلى أوروبا الراهنة بالرغم من الوحدة، وتتم مناقشة الأفكار بفرضياتها المتعارضة، ليس فى إطار ذهنى منفصل عن الواقع، وإنما بغرض الوصول إلى ما يعين الواقع ويؤمن أوروبا من أية أخطار تتعرض لها. وذلك من خلال ترجمة المفاهيم والأفكار إلى خطط وسياسات وبرامج.

ثانيا: الربط بين المجتمع المدنى والمؤسسات الحكومية، رأيت هذا فى زيارتى لمؤسسة أوكسفام نوفيب، حيث الخبراء ممن ينتمون للمجتمع المدنى جنبا إلى جنب مع مسئولين حكوميين. حيث لا بأس أن يكون هناك تنسيق بين المؤسسات دون أن يتعارض ذلك مع الدور الأصيل للمؤسسات: مدنية أو حكومية. ذلك لأنه من المفترض أن تتكامل الأدوار فيما يتعلق بدعم عملية التقدم. ونقطة البدء لأى شىء هو كتابة «ورقة مفهومية» أو «ورقة موقف». على العكس نجد عندنا الكبير أى كبير لا يتوقف كثيرا عند المفاهيم أو الأفكار متذرعا بأنه «عملى» وداعيا الآخرين ليكونوا عمليين «يا عم خليك عملى هو إحنا لسه حنظر». وعليه لا تعمل المؤسسة سواء الحكومية أو المدنية.

ثالثا: التجدد بات عقيدة، يمكن أن تشاهد ذلك فى كل تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية. حيث يتم توظيف التقنيات الحديثة فى ذلك بداية من التنوع والابتكار فى صناعة الدراجات التى تعد وسيلة انتقال أساسية لكل المواطنين على اختلاف أعمارهم، إلى التقنيات المعقدة فى مجالات العلوم التطبيقية فى الطب والبناء ونوعية المواد المستخدمة..الخ. وعلى نفس المستوى نجد العلوم الإنسانية مواكبة العلوم التطبيقية لذا نجد كيف تم تجاوز دوركايم ومناهج الجيل الأول فى علم الاجتماع الذى صار مركبا وهو ما شاهدت بعضا من انتاجه فى جامعة لايدن عندما التقيت بطلبة الدراسات الشرقية متحدثا عن الطبقة الوسطى و25 يناير. فرأيت عددا من المصادر التى تعكس قفزة مذهلة فى العلوم الإنسانية نتحدث عنها لاحقا، تتجاوز صورتها النمطية السادة الساكنة لدينا. كما تجد هذا التجدد فى معالجة الأعمال الأدبية الكلاسيكية بأشكال متنوعة ومتجددة فى سياقات مختلفة. بالإضافة إلى التداخل الكبير الذى حدث بين الإبداع الفطرى والتكنولوجيا، وهو ما يستدعى تفصيلا لاحقا.

•••

أكتب هذه الكلمات وأرى الأمطار فى مصر ونحن لا نستطيع أن نواجهها خصوصا مع انسداد فتحات المصارف الخاصة بها التى لم تتجدد منذ عقود واختلاط الأمطار بالقمامة والأتربة وأسمع نفس التصريحات الرسمية عن مواجهتها. وفى خلفية الذهن كيف رأيت الأسبوع الماضى موجة باردة فى هولندا بلغت سرعة الرياح فيها 140 كم بالإضافة إلى الأمطار الغزيرة ومع ذلك لم يتوقف المرور ولم تتأثر الطرقات وكانت الحياة تسير بنفس إيقاعها المعتاد. ترى أين كنا على مدى ثلاثة عقود؟

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s