اليسار المصرى والمواجهة القادمة مع الليبرالية الجديدة المعدلة

المقالات

لا شك أن اليسار بالمعنى الواسع للكلمة كان حاضرا فى «الحركات الشبابية الشعبية التى انطلقت فى 25 يناير.. كذلك كان حاضرا فى إطار الكتلة الجديدة الحية الصاعدة التى أرادت أن تميز نفسها بين نوعين من «اليمين المحافظ»: السياسى والدينى لهما نفس التوجه الاقتصادى الليبرالى الجديد وذلك فى الانتخابات الرئاسية… وأخيرا كان اليسار حاضرا فى 30 يونيو…ولكن…وآه من لكن…

اليسار الذى اقصده هو كل من آمن بالعدالة الاجتماعية، وبالاعتماد على الذات، وبإدراك أن العلاقة بين العلمانية والدين ليست هى القضية الأساس وإنما بين المجتمع الطائفى وبين المجتمع القومى الموحد (بحسب أنور عبد الملك)… بهذا المعنى كان اليسار حاضرا ومتطلعا لمصر جديدة تقوم ليس فقط على الحرية وإنما أيضا على العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية… ولكن اليسار بالمعنى التنظيمى لم يزل غائبا ولا يدرك أن حضوره أصبح ملحا، وخاصة أن «الليبراليين الجدد» أصحاب فكرة السوق المفتوحة قد اطلوا مجددا «بطلة» معدلة…الليبرالية المجددة التى تم نقدها والتراجع عنها فى بلدان المنشأ بعد الأزمة المالية الكارثية التى حدثت فى سنة 2008… والتى من ضمن المعالجات التى تم الأخذ بها لحصار الآثار الضارة لها أن تم مراجعة النظم الضرائبية والتأمينية مراعاة بعض الشىء الطبقات الوسطى وما دون… هكذا تقول لنا التجربة الأمريكية.

●●●

فى هذا السياق، تصبح الحاجة إلى يسار جديد ملحة (كما يقول روجر أوين الأكاديمى البريطانى الشهير)…فلقد اختطفنا «البيوريتانيون الجدد»(وهو تعبير استخدمناه مبكرا فى مقال لنا بالشروق)، لمساحة الهوية: باحتكارها كونها ملكية حصرية لهم، وباختزالها فى عنصر واحد غالب على باقى العناصر التى تكون فى ذمته… اختطاف أسقط التاريخ المصرى والتجربة المصرية فى التعايش والنضال من أجل المواطنة… وباتت هذه الموضوعات محل مساومة وابتزاز، كان من نتيجتها حضور قوى لدولة مزيج من الدينية والعثمانية…

على الجانب الآخر، يحاول الآن اليمين السياسى أن يتبنى بحماية: بيروقراطية وتكنوقراطية كل ما من شأنه أن يعيد انتاج اقتصاد السوق أو جوهر السياسات الليبرالية الجديدة… لا مانع من التهجين النصوصى بين المتناقضات فى أن تذيل النصوص بكلمات حول العدل…ولكن دون الدخول فى التفاصيل حيث البنية القانونية المصرية منذ قانون الانفتاح الذى صدر فى 1974 لا تسير يمينا فقط وإنما تسير لصالح قلة ثروية، وهو ما يفسر هذا التوتر اللافت عندما يثير البعض قضية الضرائب التصاعدية، أو التفصيل بعض الشىء للحقوق الاقتصادية للمواطنين، أو التلويح بإلغاء الـ50% للعمال والفلاحين وخاصة أنها تطرح فى إطار انها منحة سياسية لا مبرر لها بمعزل عن السياق الاجتماعى الاقتصادى التى وضعت فيه.

●●●

واقع الحال، هناك حاجة ماسة إلى كتلة يسارية وطنية عريضة…تكون قادرة على: أولا: التواصل مع الجماهير القاعدية الانسانى والتنموى النوعى، وثانيا: الخروج من النقاشات الحدية والتعمق فى التحولات التى طرأت على الواقع المعاش فى الداخل والخارج…ويلزم ما سبق الآتى:

•           ضرورة اعتراف اليسار بالتغيرات الجذرية التى شهدتها اقتصاديات مجتمعاتها منذ آخر مرة بحث فيها اليسار العربى فى هذه المسائل بالتفصيل.

•           لا يمكن الإبقاء على التصنيف الذى يفيد أن الطبقات الاجتماعية الدنيا فى مصر مثلا تتألف فقط من فئتى العمال والفلاحين القديمتين، فعلى الأرجح ــ يقول روجر أوين ــ أن نسبة عمال المصانع من القوى العاملة الصناعية باتت اليوم أقل بكثير من تلك التى كانت قائمة منذ خمسين عاما. كذلك لم تعد فئة الفلاحين تنطبق على معظم العاملين فى المجال الزراعى.

•           لابد من الأخذ فى الاعتبار أن الدراسات السابقة قد تجاهلت مساحات كبيرة من البلاد خارج القاهرة.

•           الانفتاح على تجارب وخبرات البلدان الأخرى فى كيف تعامل اليسار فى أمريكا اللاتينية مع الليبرالية الجديدة بموجتيها: الأولى القديمة والمعدلة (ونشير هنا إلى تجربة تشيلى تحديدا وإلى كتاب: تشيلى من بينوشيه إلى الطريق الثالث)… وفى هذا السياق لابد نشير أيضا على كتاب نجلاء مكاوى حول حركات اليسار الجديد فى أمريكا اللاتينية.

•           لابد أيضا من الاستفادة من الآليات العملية التى تبناها اليسار فى أكثر من مكان كى يكون حاضرا وسط الناس بشكل فاعل… فإذا كانت «حراك» 25 يناير و«تمرد»30 يونيو قد اتاحا أن يكون اليسار موجودا فإن المهمة الكبيرة هو كيف يكون فاعلا وقادرا على استيعاب الكتلة الجديدة المتطلعة إلى الكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية.

•           التعاطى مع القضايا الملحة فى سياق المقاربة المجتمعية المركبة… فغياب الحقوق عن الفئات المهمشة لا تحل بمنح خاصة بهذه الفئات بقدر ما تحل بإعادة فهم منظومة الظلم، لأنه لن يحدث أن تحصل فئة على حقوقها بمعزل عن باقى المواطنين.

• إعادة النظر فى كيفية تحقيق الاعتماد على الذات… فإذا كانت هناك صعوبة بالغة فى فك الارتباط كاملا فى هذه اللحظة فإنه دراسة المزايا النسبية المتوفرة وتعظيمها.

●●●

أعاد الحراك الشعبى الذى انطلق على مدى الثلاث سنوات الماضية الناس إلى السياسة… فلقد تبلورت «حالة سياسية» فى مصر لابد من التفاعل معها وتوعية الناس بحقوقهم والتحرر من النقاشات الحدية والنميمة السياسية…لابد من فهم ما جرى فى مصر من الذى عطل انتاج السيارة الوطنية ولماذا؟ ومن الذى أعاق صناعة الدواء فى مصر التى بدأت عام 1940 وتطورت مع القطاع العام وكنا قاب قوسين وأدنى لصناعة المادة الفعالة للأدوية المهمة؟ ومن الذى الغى أقسام البحث والتطوير فى مصانعنا القديمة ولم يهتم بوجودها فى المصانع الجديدة؟ وماذا كانت أولويات التدفقات المالية التى جاءت عبر المؤسسات الدولية المالية ولصالح ماذا؟ ولماذا كانت الحركات الدينية منحازة لليمين السياسى ولاقتصاد السوق؟ ولماذا لم يتبلور لدينا لاهوت تحرير مصرى منحاز للغلابة ليس لتوظيفهم ككتلة تصويتية لدعم مقابل الخدمات الخيرية التى لا تغير من واقعهم فى البنية المجتمعية على غير ما فعلت الحركة الدينية فى أمريكا اللاتينية حيث حررت المواطن من داخله ورفعت من وعيه الاجتماعى من أجل تغيير واقعه فى ضوء رؤية انتاجية مركبة للوطن؟…الخ.

هذه النوعية من القضايا، وغيرها، يمكن أن تكون بداية لجدول أعمال وطنى للنقاش بحضور الشباب لاكتشاف السبل العملية لكى يكون اليسار جاهزا للمعركة القادمة.

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s