مشروعات فكرية تمنح الأمل للإنسانية

المقالات

’’ لقد استنفرت الجائحة الفيروسية إنسان/مواطن اليوم لأن يعيد النظر في السياقات التي كان متعايشا فيها ومعها‘‘...

     فبالرغم من أن هذه السياقات لم تُحقق ما كان يصبو إليه من تطلعات تتعلق بالعدالة والأمان والحرية والتقدير والكرامة والحضور الفاعل. إلا أن الأفكار التي سادت في ظل الليبرالية الجديدة على مدى أربعة عقود والتي أعلت من قيم الفردية والاستهلاك والمضاربة والسلعية، وما شابه، قد خلقت حالة من القوة الوهمية / وهم القوة؛ بأن الإنسانية باتت تمتلك أمرها وأنها تعيش أزهى عصورها. وقد ساهمت آليات الليبرالية الجديدة الاقتصادية/المالية والإعلامية والتقنية في زيادة الشعور بقدرة الإنسان/المواطن في السيطرة على حياته ومصيره.

وما أن حلت الجائحة الفيروسية، حتى شعرت البشرية، على اختلاف ألوانها، بأن هناك، ليس خللا ما، بل اختلالات عدة في صلب بنية عالم اليوم. ذلك لأن حجم الانكشاف كان كبيرا...ففي بداية الأزمة كان إنكارها هو الفعل الذي مارسته الدول التي في المقدمة. وما أن أصبحت المواجهة حتمية تبين مدى ضعف السياسات والأنظمة الصحية في التعاطي مع هكذا ظروف. (بالرغم من أن منظمة الصحة العالمية قد حذرت قبل سنوات من تحورات الانفلونزا المتوقعة ونبهت العالم حول خطر "الكورونا أو الكوفيد ــ 19" في تقريرها السنوي مطلع 2019)... وأذكر أني تابعت في شهر مارس الماضي جلسة برلمانية عاصفة ممتدة في مجلس العموم البريطاني تبين فيها مدى القصور الكبير في السياسات الحكومية البريطانية من حيث الاستعداد اللوجستي والبحثي والعلاجي لمواجهة ما يتهدد المواطنين على اختلافهم. والأهم هو انحياز السياسات الصحية في الأصل للقادرين وهم قلة...

وتوالت، بفعل فداحة الجائحة الفيروسية، "الانكشافات" التي صبت كلها في تأكيد شراسة الجائرة الرأسمالية السائدة وكيف أنها غيبت العدالة عن ثلثي مواطني العالم ولم تمنح الإنسانية إلا عدم المساواة. لذا تفاقم جور الجائرة الرأسمالية نتيجة الانكماش الحاد الذي أصاب الاقتصاد العالمي واستدعى اتخاذ قرارات مؤلمة تجاه ما يقرب من مليار إنسان/مواطن على ظهر الكوكب.  (وهو ما أشرنا له تفصيلا وبالأرقام في مقال الأسبوع الماضي) ...والأهم زيف القيم التي تحكم العالم لعقود...

وتولدت قناعة حتمية بأنه لا مناص من مراجعة جذرية ليس فقط للنظم الصحية القائمة وإنما كذلك للنظام الاقتصادي العالمي السائد وأيضا لنظامنا القيمي الحاكم... 

في هذا السياق، تجلت عظمة العقل الإنساني...ففي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد من "انكماش حاد" نجد حالة من "الانتعاش الفكري الجاد" تجتاح العالم في محاولة لإنقاذ العالم من المصير الذي يتهدده من قبل أزمات: الأوبئة، والمناخ/البيئة، والإخفاقات المزمنة للنظام الاقتصادي العالمي؛ ((Corona, Climate, & Chronic Economic Failure؛ نعم تراوح الانتعاش الفكري بين التصويب والجذرية ــ كما أشرنا في مقالنا السابق ــ إلا أنه انتعاش فكري أصيل يجتهد في محاولة تبصر مستقبل أكثر عدلا وحرية وأمنا للبشرية...ويتمثل هذا الانتعاش في محاولة بلورة رؤية فكرية وحياتية تعيد القيمة والأهمية والجدية "للظرف الإنساني"، الراهن بحسب عنوان الكتاب المعتبر للفيلسوفة "حنه آرندت"(1906 ـ 1975).

إن الظرف الإنساني الراهن فرض إعادة النظر في عديد القضايا والإشكاليات التي تتعلق بالإنسان/المواطن المعاصر مثل: أولا: السياق الذي يعيش فيه. ثانيا: العلاقات التي ينخرط فيها. ثالثا: مجالات حركته. رابعا: الشروط المطلوب توفرها لضمان مسار عادل وكريم وحر له. خامسا: والكيفية التي تؤمن تنمية آمنة ومستدامة لكل إنسان / مواطن دون تمييز...ما يعني المراجعة الشاملة للقيم والأفكار والأنظمة النوعية والخطط والسياسات...

في هذا المقام، تعددت الاجتهادات الفكرية في شتى المجالات. وظني إن من أهم ما صدر من مشروعات فكرية في سنة "الكورونا" وجدير أن نعرضه تفصيلا نذكر: أولا: المجلد الشامل لتاريخ الاقتصاد في العالم وحاضره ومستقبله الذي أصدره الاقتصادي الفرنسي في مارس الماضي في أكثر من 1000 صفحة...ثانيا: كتاب: "عراك مع ثمانية عمالقة: الدخل الأساسي الآن"، الذي صدر صيف 2020، لعالم الدراسات التنموية البريطاني "جي ستاندينج"(1948 ــ ) الذي أظن أننا أول من قمنا بتعريفه للقارئ العربي من خلال تقديمنا لكتاباته الرائدة حول طبقة "البريكاريات" منذ ست سنوات والتي عربناها إلى "المنبوذين" وهم أشد معاناة من المهمشين ومن يعيشون حياة الفقر المدقع التعيس والبائس...ففكرة الدخل الأساسي فكرة يتم اختبارها ميدانيا في عدة أماكن نفصلها في مقال لاحق...ثالثا: الرؤية الفلسفية التي يحاول بلورتها أحد أهم فلاسفة العالم المعاصرين الفيلسوف السلوفيني "سلافوي جيجيك"(1949 ــ  )من خلال كتابه الصادر مؤخرا: "الوباء/الهلع الذي هز العالم"...

وبالرغم من أن العالم لم يزل تحت تهديد "الكورونا / الكوفيد ــ 19/وربما 20/ أو ما يستجد"؛ فيما بات يعرف بالموجة الثانية، إلا أن هذه الرؤى/المشروعات الفكرية تمنح مواطنو العالم ــ على اختلافهم ــ أملا في إمكانية مواجهة الأزمة المركبة: الصحية، والاقتصادية، والإنسانية، واستكمال التعافي التام  ــ ليس الصحي فقط ــ وإنما الاقتصادي أيضا، في ظل منظومة قيم أكثر إنسانية حيال الذات والبيئة والمجتمع...وتصحيح الأخطاء ــ الجرائم ــ التي اُقترفت في حق الإنسان، والمجتمع، والبيئة/المناخ، بفعل خيارات وسياسات خاطئة تحكمها صفقات القلة الثروية...ما أخل بالمساواة والعدالة التوزيعية بين البشر. وأصاب نظام التوازن البيئي الطبيعي بإصابات بالغة تكاد أن تدمر الكوكب. وسمح باللعب الفيروسي لتوفير أسلحة بيولوجية رادعة في الصراع بين الأمم...  

 ولا يقتصر مسعى هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم الاجتهاد الفكري في لحظة قلقة من تاريخ العالم والبشر، إلى عودة الحياة إلى طبيعتها، وإنما إلى إحداث تضامن كوكبي من أجل تجديد الحياة بقيم وأفكار وسياسات جديدة و"وضعية إنسانية/مواطنية" أفضل...وهو ما سنفصله تباعا...وسنبدأ بمشروع "بيكيتي" من أجل العدالة...

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s