(الإمام" الليث بن سعد":"فقيه مصر" (رؤية مصرية تقدمية

المقالات

في إطار الندوة التي نظمها برنامج دراسة الحركات الإسلامية (التابع لمركز الدراسات السياسية بالأهرام) الذي يرأسه الصديق العزيز الأستاذ ضياء رشوان،حول وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر،شرفت برئاسة الجلسة الختامية (وكانت حول المستقبل ) وأشرت إلى ما أسميته

المسار الفقهي المصري الذي يجب الإطلاع والبناء عليه..وعلى مؤسسه الإمام الفقيه "الليث بن سعد"، صاحب الرؤية المتقدمة إجتماعيا والاجتهادات المتميزة فيما يتعلق بحرية الشعائر الدينية لغير المسلمين..دائما ما أحيل إليه في كثير مما أكتب و المشاركات المتنوعة من ندوات ومحاضرات..طارحا السؤال لماذا اللجوء إلى اجتهادات أدنى أو إلى اجتهادات لا تعبر عن الخبرة المصرية إذا كان لدينا فقه "سقفه" أعلى ويعبر بانسجام تام عن سياقنا المصري .. ودائما ما أن أشير إليه أجد من يريد أن يعرف الكثير عنه..وهو ما سأجتهد في تقديمه في هذا المقال انطلاقا من اعتزازي بكل ما ينجزه العقل المصري عبر العصور بداية من اجتهادات مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في مصر القبطية،والفقه المصري الذي ولد هنا في واقعنا المصري...

من هو الإمام الليث بن سعد

ولد الليث بن سعد في قرية قلقشندة،من أعمال مركز طوخ،بمحافظة القليوبية منتصف القرن الثامن الميلادي(سنة 93 هـ)،من أسرة غنية. وفي حياته الممتدة يقول عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه أئمة الفقه التسعة"عرفت مصر دولا وحكاما،وابتليت،بالطغاة من خلفاء وولاة..ولقد شهد الليث منذ طفولته مظاهر الجور، وبطش الولاة،حتى لقد استقر في نفس الصبي كره للحكم وللحكام..ولكنه شهد وهو دون العاشرة عدل الخليفة عمر بن عبد العزيز، وصور الرخاء التي عمت مصر، حتى لم يعد فيها من يستحق أن تصرف عليه الزكاة..لا تفرق في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين". في هذا السياق عاش إمام مصر..ظلم الحكم وعدله وأن المسألة لا تتعلق بالدين..كما عاش في خير قرى الدلتا بما تتمتع به من "خصب الأرض، والغنى بالثمر والخير..وجودة الفاكهة". لقد تفتحت عين الصبي منذ وعي الحياة على – بحسب الشرقاوي -"خضرة الأرض،وانسياب النهر،وروعة الحقول والبساتين،والحدائق،وامتلأت رئته الصغيرة بعبق الأزهار،فنشأ يحب الجمال". ويذكر أن أول ما رواه من أحاديث "إن الله جميل يحب الجمال"، فلقد أكسبته مرائي الجمال في قريته صفاء العقل والذوق والنفس، وحبا للحياة والناس. لذا نجده عندما أمر أحد ولاة مصر بهدم الكنائس "يرسل إلى الخليفة طالبا عزل الوالي لأنه مبتدع، مخالف لروح الإسلام.فعزله الخليفة بجريمته، وأشار على الوالي الجديد أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس، وأن يبني كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون في مصر..ولكي تظل للكنائس حرية العبادة فيها". من أهم ما طرحه في هذا السياق احتجاجه على من هدم الكنائس بقوله تعالى"ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها "ثم وعيده تعالى"لهم في الدنيا خزي وفي الآخرة عذاب عظيم"،وهنا يشير الإمام الليث إلى أن الآية نزلت في الروم الذين فتحوا بيت المقدس،فمنعوا الصلوات وأحرقوا الكنيسة،فلم يوجد نصراني إلا أنهك ضربا. وتأكيد أيضا أن بناء الكنائس زينة للأرض. من هنا كانت ملاحظتنا لماذا لا يؤخذ بالاجتهاد الأكثر رحابة والذي ولد في واقعنا ويلجأ البعض لابن القيم الذي ولدت اجتهاداته في سياق مغاير وهو ما كنا قد أشرنا إليه في مقالنا الذي تعرض لأحداث العياط في مطلع الصيف الماضي عندما وجد أن الشباب تحرك ضد بناء الكنيسة وفق ما أطلع عليه من أحكام لا تعبر عن سياقنا.

 

موسوعية الليث

كان الإمام الليث بن سعد يعرف العربية واللغة المصرية القديمة/ والقبطية والتي من خلالها نقلت كل الإعجاز المصري القديم في علوم الفلك والطب والرياضيات والطبيعيات والهندسة ونقلت تراث اليونان والرومان وغيرهم.ولقد نقل بعض هذا التراث إلى اللغة العربية فأتيح لطلاب العلم أن يعرفوا،وما ظل من تلك المعارف في اللغة القبطية كانت معرفته ميسرة للمثقفين المصريين من مسلمين وأقباط الذين أصبحت اللغة العربية لسانهم بحق، بالإضافة للغتين القبطية والعربية كان الإمام الليث يعرف أيضا اليونانية واللاتينية...الأمر الذي أتاح له التعرف إلى ميراث علوم الأسلاف،واستيعاب معطيات الحضارة المطروحة على العقل المصري..أتاح هذا كله للشباب غنى فريدا في الثقافة..وفوق ذلك نجده وقد عكف على كل الحلقات العلمية بانفتاح في جامع عمرو يتلقى التفسير والحديث والفقه...والنتيجة أنه تمكن من مفاتيح العلوم الدينية كما نمكن من العلوم الدنيوية وألم بالأدب قصصه وشعره بأنواعه حتى شعر الغزل..كان لديه حسا اجتماعيا،وله مواقف نقدية واعية..وتجلت موسوعيته في اجتهاداته التي حظيت بالإعجاب والتقدير من لجميع حتى مخالفيه.(نشير هنا لمن يريد أن يستزيد إلى سلسلة شخصيات إسلامية). لقد كان أشد ما يسوءه من ولاة الأمر أن يقبل أحدهم هدية،لأنه

*"إذا دخلت الهدية من الباب،خرجت العدالة من النافذة".

كان يقسم وقته بين أربعة مجالس، الأول للحاكم والقاضي، والثاني لأهل الحديث، ومجلسا للناس أسماه مجلس المسائل ليجاوبهم عن أسئلتهم، والرابع لتلبية حاجات الناس الحياتية من مأكل وملبس..الخ..وهذا المجلس كان يستهلك إيراده السنوي الكبير. وكانت له اجتهادات تحرص دوما على إقامة العدل بين الأغنياء والفقراء فيقول"على صاحب الأرض أن يعمل فيها أو يستغلها بالمزارعة ويقسم الثمرات بينه وبين العاملين.فله نسبة منها لا تجحف حق العاملين ولا تظلمهم".
مثلما كان حريصا على الدين فأجتهد حتى بات يسعى إليه كل فقهاء عصره، كان حريصا على مصر وعلى طريقة حكمها وهو ما جعل الخليفة العباسي المنصور يدعوه ويلاقيه..وصرف كل ما أعطاه إياه المنصور من مال للمحتاجين فورا. لقد نادى الليث بأنه ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية والحكام وولاة الأمور مسئولون أمام الله عن يوفروا للناس جميعا
* "حد الكفاية" لا "حد الكفاف"..
• "حد الكفاف" هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب...،
• أما "حد الكفاية " فهو ما يكفي كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب والمسكن الصالح المريح، والدواب التي تحملهم، والعلم الذي ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم، وكل ما يوفر الحياة المريحة الكريمة للإنسان".

وعلى الرغم من الإشادة به على كل المستويات بيد أن من الحكام من لم يعجبهم بعض كلامه مثل خلفاء بني أمية..وأثاروا قضية أنه مصري،وقلبوا عليه(وهنا يحضرني اجتهادات القديس أثناسيوس اللاهوتي المصري العظيم الذي لا تدرس رؤيته في جامعاتنا في أقسام الفلسفة المسيحية مثل "أنسلم"و "توما الإكويني"،والذي لاقى الأمرين من الحاكم الروماني،وكيف يخرج من ولاية مصرية تابعة لاهوت مصري يقود العالم).
وما أن بلغ الليث بن سعد الثلاثين حتى عرف بقدراته الفقهية وأصبح – بحسب البعض – سيد الفقهاء..وأستطاع أن يتخذ لنفسه طريقا مبدعا بين فقه السنة وبين فقه الرأي. وعلى هذا سار الإمام الشافعي من بعده عندما جاء إلى مصر.
عاش الإمام الليث بن سعد 82 عاما ملأ الدنيا من حوله – بحسب الشرقاوي- "بالخير،والعلم،والمعرفة،وآداب السلوك،وأسباب المحبة"...إنها دعوة لقراءة الانجازات المتنوعة للعقل المصري، وألا نضيع أفضل تجلياته.

 

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s