من أين بدأ اليسار اللاتيني؟

المقالات

تناولنا في الأسبوع الماضي تجربة اليسار اللاتيني..وكيف استطاع أن يبلور صيغة يحشد حولها الناس عنوانها الكبير"العدل الاجتماعي"،وأن يتم ذلك في إطار ديمقراطي مكن اليسار من الوصول إلى الحكم والانجاز..ولكن كيف استطاع اليسار اللاتيني أن يحقق ذلك؟

تعويض الناس عن المعاناة

ربما تكون تشيلي، نموذجا معبرا لتجربة اليسار اللاتيني في وصوله للحكم، جدير بالعرض والتقديم.. ولتذكير القارئ الكريم،كنا قد أشرنا في مقالنا السابق،إلى فيلم "مفقود"الذي أخرجه كوستا جافراس عن الانقلاب الذي تم ضد الليندي والمذابح التي طالت كل شارع في تشيلي ،وتحول إستاد العاصمة إلى مقبرة جماعية..وكيف أبدع المخرج مشهدا يظهر فيه "حصان أبيض"ينطلق من قلب الليل تطارده رصاصات القهر،معطيا الأمل بأن هذا الظلام لابد له من نهاية، حتما. لقد استمر النظام الديكتاتوري في تشيلي من 1973 إلى 1990، ولم يكن يتصور أي مراقب بان هذا النظام سوف ينتهي..ولكن المظاهرات عمت كل مكان..فماذا فعل اليسار اللاتيني؟
• استجاب للمظاهرات الشعبية التي أسقطت بينوشيه،وأطلق حرية تكوين الأحزاب والروابط.
• الاتفاق على أنه لا يمكن الانطلاق بالبلد بغير تعويض الشعب عن معاناته،حيث تم تشكيل لجنة باسم لجنة"الحقيقة والوفاق"للتحقيق والبحث حول كل من قتل أو اختفى في ظل دكتاتورية بينوشيه،وإعداد تقرير تفصيلي حول كل حالة وإعلانه على الجميع.
• منح تعويضات لأسر ضحايا القهر، والذين لجئوا إلى الخارج، والذين فصلوا من عملهم.
على أرضية الثقة الشعبية Public Confidence،وهو مفهوم لا نعيره الكثير من الاهتمام، بالرغم من أن الثقة الشعبية أحد المعايير الأساسية لتوفر الشرعية لأي نظام سياسي..لذا كانت القوى الوطنية عموما، وقوى الائتلاف اليساري خصوصا حريصة على أن تنال شرعيتها من ثقة الشعب في تعويضه عن معاناته في ظل النظام الدكتاتوري وإن حقوقه لا تضيع بالتقادم من جهة، ودعما للتغيير المزمع من جهة أخرى.

إعادة ترتيب البيت

بالإضافة إلى الثقة الشعبية، عنيت القوى الوطنية بإعادة ترتيب البيت من الداخل فقامت بأمرين، الأول استعادة هيبة القضاء وأن دوره أساسي في مرحلة ما بعد الدكتاتورية في أن يضمن الحصول على الحقوق للجميع بدون تمييز. وقد كان للسلطة القضائية دورا أساسيا في التحقيق والفصل في آلاف الشكاوي الخاصة بالتعذيب والسجن وتوثيق ذلك،وقد كان شيئا بشعا. الثاني تكوين لجنة تضم شخصيات عامة من كل الاتجاهات كما ضمت شخصيات دينية كان لها دور ثوري في مواجهة الاستبداد والانحياز الواعي للناس،كانت مهمتها أن تعد المسرح السياسي لأن تتفاعل القوى السياسية فيما بينها التزاما بالديمقراطية والقبول بها مرجعية حاكمة لهذه التفاعلات. وعليه نجد منظمة الدول الأمريكية تصدر قرارا بإجماع أعضائها بعزل أي بلد يخرج عن النموذج الديمقراطي. في هذا السياق تكون ائتلاف اليسار واستطاع من خلال الاجتهاد بتقديم حلول حقيقية لمشاكل الناس أن يدخل إلى حلبة المنافسة السياسية..وبالفعل نجح الائتلاف اليساري أن يحكم منذ العام 1990وإلى الآن.
لقد طرح اليسار اللاتيني مشروعا يقوم على العدل الاجتماعي في إطار ديمقراطي، لذا أطلق عليه البعض "اليسار الاجتماعي"والبعض الآخر "اليسار الديمقراطي"..وتؤكد تجربة تشيلي(ومعها البرازيل،والأرجنتين والأورجواى،..)على أنه تم تجديد النظر إلى كثير من المفاهيم الاجتماعية – السياسية، الأمر الذي دفع المجتمع إلى القبول بأن ينتقل من البنية الهرمية إلى المساواة الحقوقية بين الأفراد. ويشار هنا إلى أن الحراك السياسي على أرض الواقع قد فتح شهية علماء الاقتصاد والاجتماع إلى الاجتهاد النظري والعملي في تقديم أطروحات تتناسب والواقع من جانب،وتأخذ في الاعتبار التغيرات الإقليمية اللاتينية والعالمية من جانب آخر.

الديمقراطية الاجتماعية

يعكس نجاح اليسار في الانتخابات في ألعديد من دول قارة أمريكا اللاتينية،ومن ضمنها تشيلي، حيث يحكم الائتلاف اليساري منذ العام 1990إلى الآن،و تتولى الحكم بموجب انتخابات 2006 ميشيل باتشيليت( الطبيبة ابنة أحد ضحايا بينوشيه والتي تعرضت مع والدتها للسجن والضرب المبرح خلال عهده كما تعرضت للنفي وعادت لتستكمل نضالها وتخوض الانتخابات وتنجح باستحقاق لافت)،أقول يعكس نجاح اليسار، أن دول القارة اللاتينية لم تختر شكلا جديدا من الحكم أو الممارسة السياسية.. وإنما اختارت ديمقراطية اجتماعية جديدة،وأن تكون مع الوقت تقاليد مقدرة في هذا السياق،بحيث تترشح السيدة باتشيليت عن اليسار أمام أحد رجال المال والأعمال وتتمكن من الفوز عليه.. وأن يكون لكل فرد من أفراد المجتمع الحق في الاقتراع ومن ثم المشاركة السياسية(تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات).
وفي ضوء ماسبق تم تدعيم اللامركزية،مع الأخذ في الاعتبار ابتكار آليات للدمج الاجتماعي في نفس الوقت. فاحترام الخصوصيات من دون الدمج يدعم تفتيت المجتمع،وعليه لابد من تفعيل الاندماج من خلال دور للدولة في تقديم الخدمات الأساسية،وأن الثروة العامة للبلاد لابد من أن يتم توزيعها بالعدل،وهنا لابد من التفريق من توزيع بعض الفائض كمسكنات وبين التوزيع العادل للثروة باعتبار ذلك حق لكل مواطن .
هكذا بدأ اليسار اللاتيني مسيرته في أمريكا اللاتينية..الاستجابة لمعاناة الناس،وإعادة ترتيب البيت باستعادة قيمة القانون في ضوء توافق وطني عام،تقديم أطروحات مبتكرة فكرية وعملية لإحداث التقدم .

 

 

 

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s