حركات اليسار العربية...أكثر من جدول أعمال

المقالات

كتب الأكاديمي الشهير روجر أوين(بريطاني الأصل يعمل بجامعة هارفارد الأمريكية)‘المتخصص في قضايا الشرق الأوسط والملم بشئونه،مقالا مهما في جريدة الحياة اللندنية بعنوان:"جدول أعمال جديد لحركات اليسار العربية"(22يوليو الماضي)،في غاية الأهمية لم يحظ بالاهتمام المطلوب..ما الذي طرحه أوين في مقاله؟

ماذا حصل لليسار العربي؟



كان هذا هو السؤال الذي طرحه روجر أوين في بداية مقاله،حيث أجاب بأن اليسار العربي قد انهار تحت وطأة حكومات الخمسينات والستينات من القرن الماضي المتسلطة من جهة،واستحواذ هذه الحكومات على بعض ما كان يتبناه اليسار من أفكار في برنامجه وخاصة سياسات العدالة الاجتماعية وأن يكون التعليم للجميع،وإصلاح ملكية الأراضي،بالإضافة إلى توسيع نطاق القطاع العام. أما عن الجماعات اليسارية الصغيرة التي أخذت في الظهور في السبعينات فلقد تلاشت أمام القوى الإسلامية.
أي أن اليسار قد حوصر من السلطات التي أنجزت الاستقلال في مرحلة من المراحل، ومن القوى الإسلامية الصاعدة فيما بعد، حيث عملت كل من السلطة والقوى الإسلامية على تفكيك أي روابط بين القوى اليسارية والعلمانية العربية. وهنا يطرح أوين أول التحديات التي على حركات اليسار العربي أن تواجهها وهو "هل إحياء الحركة اليسارية العربية يبدأ بمحاولة الارتباط مجددا ببعض الجماعات التي لا تزال تنبض فيها الحياة في التيار التقدمي التقليدي الذي بات يناهز الموت –في رأيه- ؟"، وان لم يتحقق ذلك كيف سيتمكنون من العمل على " تطوير إستراتيجية جديدة تتماشى مع المشاكل التي تواجه مجتمعاتهم". وفي هذا السياق يطرح روجر أوين بعض المهام التي يجب على اليسار الاضطلاع بها.

مهام ملحة أمام اليسار

يطرح الباحث في مقاله مجموعة من المداخل الأساسية التي يجب أن تنطلق منها حركات اليسار العربية والتي سوف يترتب عليها مجموعة من المهام وذلك كما يلي:
• ضرورة اعتراف اليسار بالتغيرات الجذرية التي شهدتها اقتصادياتها ومجتمعاتها منذ آخر مرة بحث فيها اليسار العربي في هذه المسائل بالتفصيل.
• لا يمكن الإبقاء على التصنيف الذي يفيد أن الطبقات الاجتماعية الدنيا في مصر تتألف فقط من فئتي العمال والفلاحين القديمتين،فعلى الأرجح –يقول أوين- أن نسبة عمال المصانع من القوى العاملة الصناعية باتت اليوم أقل بكثير من تلك التي كانت قائمة منذ خمسين عاما.كذلك لم تعد فئة الفلاحين تنطبق على معظم العاملين في المجال الزراعي.
• لابد من الأخذ في الاعتبار أن الدراسات السابقة قد تجاهلت مساحات كبيرة من البلاد خارج القاهرة.
في ضوء هذه المداخل يؤكد أوين على أن نجاح أي مشروع يساري مشروط بمعالجة هذه المشاكل مباشرة،من خلال ما يلي:
• إجراء الكثير من الدراسات التحليلية السياسية والاجتماعية الجدية ،ليس فقط لتقويم التأثيرات التي تنتج عن التغييرات بل أيضا لفهم ديناميكيتها والطرق التي ستساهم فيها هذه التطورات في تغيير الاقتصاد السياسي للبلدان المعنية في العقود القادمة.
• تأليف مجموعات بحث منظمة،أو إنشاء معاهد بحث لمساندة الحكومة في عملها كمجموعة "بريتش فابيان سوسايتي" التي تم إنشاؤها في أوائل القرن العشرين.

اليسار والواقع المعاصر

يطرح الكاتب بعد ذلك رؤيته للواقع المعاصر مركزا على مصر،حيث يشير إلى ضرورة فهم اليسار للظروف القائمة بصورة أشمل وأفضل تمكنه من التوصل إلى استنتاجات صلبة ويعطي مثالا لذلك يخص طبيعة دور كل من القطاعين العام والخاص. فيمكن أن يكون القطاع العام أكثر فاعلية في مجالات كالتعليم والصحة،عن طريق إيجاد شراكة تعاونية لا تنافسية مع شركات خاصة. ويرى روجر أوين،أن أي حركة يسارية ينبغي أن يكون في استطاعتها تقديم الضمانات لمناصريها حول نجاحاتها المستقبلية،انطلاقا من أن تجارب التاريخ تسمح لها بذلك.
وبالرغم من قوة الأنظمة الحالية وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية،إلى أن ذلك قد يؤدي مع القدرة التنافسية المتزايدة للاقتصاد المصري إلى تصاعد حدة التوترات وتضاعف المصالح ليس فقط بين الرأسماليين أنفسهم بل أيضا بينهم وبين مستخدميهم،ومن ثم لن يفيد التعامل النمطي التقليدي في التعامل مع الإشكاليات المستجدة ذات الطابع الاجتماعي،من خلال السيطرة الأمنية أو بالتسويات العرفية غير المؤسسية،وهو ما سيحتاج إلى الاستجابة المؤسسية،وإلى إتمام التغيير المطلوب في شتى المستويات نحو بلوغ دولة حديثة بحق. وفي هذه الحالة كما في العديد من المسائل المتعلقة بالتحليل السياسي، سيكون على اليسار الكثير لعمله...خاصة مع محاولة تمييع مفهومي اليمين واليسار في أمريكا وإشاعة هذا النموذج في العالم(راجع مقالنا هل هناك يمين ويسار في أمريكا –البديل 15/8/2007)،حيث العملية السياسية تتكون من أقلية ثروية تتعامل مع الناخبين باعتبارهم زبائن تقدم لهم الخدمات ليس لهم مصالح ولا بأس من أن تكون الكتلة الدينية قاعدة اجتماعية لهذه القلة،أو تدخل هذه الكتلة طرفا ويتم تقسيم المشاركين في العملية السياسية على أساس ديني،وليس على أساس سياسي.

انه أكثر من جدول أعمال...

إن ما طرحه روجر أوين في مقاله لجدير بالنقاش وفتح الحوار حول ما جاء فيه..وواقع الأمر،فإن القراءة المتأنية لما أثاره تقول أنه يطرح ليس فقط جدول أعمال جديد لحركات اليسار العربية،وإنما ضرورة تبني مشروع تجديدي يأخذ في الاعتبار المستجدات التي طرأت على بنية المجتمع العربي،والإطلاع على جديد المنظومة العالمية التي يبدو أنه لا مناص من أخذها في الحسبان عند العمل على هذا المشروع. وربما نضيف على ما سبق ضرورة الإطلاع على الكثير من الأدبيات المعتبرة التي ساهمت في تجديد الخطاب اليساري(مجلة اليسار الجديد)، ودراسة الخبرات العملية التي نجحت فيها حركات اليسار أن تتواصل مع الجماهير من جهة،وأن تصل إلى الحكم من خلال العملية الديمقراطية(حالة تشيلي مثلا)،والتفاعل الطيب الذي تم بين حركات اليسار وحركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية،حيث استفادت الحركة الدينية من أن يكون لها مشروع اجتماعي تقدمي(وهو ما درسناه مبكرا منذ مطلع التسعينيات في دراستنا عن تجربة لاهوت التحرير-1994).كذلك ضرورة أيضا ترجمة الكثير من الأدبيات اليسارية المعتبرة التي تناولت الكثير من القضايا الهامة في السنوات الأخيرة( العولمة والعالم ما بعد الكولونيالي، كتابات والرشتاين،...)،وأظنها سوف تسهم في تطوير المشروع التجديدي المطلوب.وأخيرا لا ينبغي إهمال المحاولات الجدية المحلية التي تمت في الأعوام الأخيرة لتجديد اليسار العربي مثل:مشروع وثيقة سياسية لحركة اليسار الديمقراطي التي أعدتها اللجنة المؤقتة لحركة اليسار الديمقراطي اللبنانية...الخ. أتصور إن إعداد خريطة معرفية أولية سيفيد كثيرا في تحقيق المشروع التجديدي المرتقب..ولعل ذلك ما يمكن أن نقدمه في مقالنا القادم...بيد أنه في كل الأحوال أتصور أن" البديل " عليها أن تتبنى الدعوة للحوار حول هذا الموضوع الهام...

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s