المواطنة "الافتراضية"

المقالات

من المشاهد المعبرة تماما عن طريقة تناولنا للمواطنة ما فعله المخرج التليفزيوني الذي كان ينقل جلسة الدورة البرلمانية الجديدة،ذلك عندما جاء ذكر كلمة المواطنة في نص الخطاب حتى انتقل إلى الكاميرا مباشرة ،وفي لمح البصر بجهد يشكر عليه،إلى حيث يجلس قادة الدينين الإسلامي والمسيحي في مصر.. مؤكدا من خلال رسالة إعلامية محددة لا تحتمل اللبس، أن المواطنة تساوي موضوع العلاقة بين المسلمين والأقباط دون سواه من الموضوعات..إنها ما أسميه" المواطنة الافتراضية"..فماذا أقصد بذلك؟

المواطنة.. مقاربات افتراضية

بداية تعبير افتراضي Virtual هو تعبير أستعيره من عالم الحاسوب،حيث هناك ما يعرف بالعالم الافتراضي..هو عالم يصنعه المرء بنفسه ولنفسه من خلال استخدام التقنيات المتطورة..فهو عالم غير موجود في الواقع ولكنه يصنع من خيال هذا الصانع..فهو يمكنه أن يصمم ملعب لكرة القدم بحسب الأبعاد المتعارف عليها واللاعبين المطلوبين وجمهور وحكم وكوره، ويقوم بتحريك الفريقين والتحكم في تمرير الكرة ويتم كل هذا بشروط ومزاج الصانع وكيفما شاء، وهكذا ..ويظل هذا الجهد لا يجاوز المسافة بين الشخص والحاسوب الذي أمامه،كما أن هذا العالم الافتراضي يصنع في إطار تحيزات الشخص ووعيه ..عالم كامل خيالي مصنوع..منبت الصلة عن الواقع..وقد يكون هناك شخص آخر في نفس الوقت يقوم بنفس العمل ولكن يصنعه بطريقة أخرى، وبرؤية أخرى وبمزاج مختلف، حتى وإن التزم بالقواعد الأساسية لما يقوم به..
في هذا السياق، يبدو لي أننا نتعامل مع المواطنة بهذا المعنى، فالمواطنة تترجم لدى كل منا بمعنى مختلف مشكلة فهما افتراضيا لدى كل منا على حدة، بعيدا عن الفهم العلمي المنضبط من واقع الأدبيات المعتمدة للمواطنة،فالمواطنة كممارسة ومصطلح لها مسار مرت فيه ولها نظريات تفسرها،وأدبيات خاصة بها بدأت في التبلور بعد الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي..وهنا يمكن رصد ست مقاربات أو معالجات للمواطنة من واقع الكتابات التي كثرت في الآونة عن المواطنة وذلك كما يلي:
المقاربة اللاتاريخية:وأقصد بها التعامل مع المواطنة بعيدا عن المسار التاريخي الذي سارت فيه،ونجاحاتها وإخفاقاتها،ومتى تبزغ ومتى تأفل ولماذا..
• المقاربة السكونية:حيث يتم التعامل معها وكأنها قيمة مثالية أخلاقية يمكن أن تتحقق في الواقع إذا تم الحديث عنها،مثلها مثل الفضائل والأخلاق الحميدة،وبسرد مجموعة من الينبغيات التي تكون بمثابة وصفة لتحقيق المواطنة،بغض النظر هل الظروف مواتية أم لا..أو أنها يمكن أن تتحقق بشكل فردي..أو بقرار فوقي..
• المقاربة اللغوية:وهي المقاربة الشائعة في ثقافتنا، فالمواطنة من الوطن ويعني المكانة والمنزلة..وتجد مدونات في هذا السياق، وعلى رغم من ثراء ومتعة هذه المقاربة إلى أنها لا تصل بنا إلى المطلوب..وفي هذا المقام تكثر الاجتهادات الإنشائية البليغة و التي قد تؤدي بصاحبها من خلال ما يطرحه إلى تمتلئ عباراته بالتناقضات.
• المقاربة النصوصية:حيث يجتهد الكاتب في التقاط بعض العبارات المتناثرة من هنا وهناك كتبها فلان وعلان،حيث تضمنت هذه العبارات كلمات عن الوطنية أو الوطن أو النخوة الوطنية..أو الاستشهاد بنصوص دستورية أو قانونية تؤكد على حقوق المواطن..أو الرجوع لبعض النصوص الدينية للتدليل على المواطنة.
• المقاربة الرافضة:من منطلق أن المواطنة مصطلح غربي وافد.
• المقاربة الحصرية:وهي مقاربة يصر صاحبها ربط المواطنة بمعنى محدد دون غيره،فالمواطنة تعني الجنسية،أو تعني الهوية،أو الولاء والانتماء .. وقد يصر ألا ينظر لها إلا من خلال الدستور فقط دون غيره..أو ربط المواطنة بالعلاقة بين المسلمين والمسيحيين فقط..
وهكذا..تصبح المقاربات المختلفة مجرد مقاربات افتراضية لا تمت للواقع بصلة، لا تعبر عن المفهوم ودلالته، وكل واحد واجتهاده.

المواطنة حركة وفعل وعلم

لفهم المواطنة، لابد من القول أن هناك اتفاق على أنها جهد إنساني وتعبير عن حركة الإنسان على أرض الواقع، وبمقدار ما يناضل المرء/تناضل الجماعة من أجل اكتساب الحقوق وبلوغ المساواة بين الجميع دون تمييز بمقدار ما تتحقق المواطنة. وفي مقال سابق لنا ذكرنا أن المواطنة تبلورت على مراحل من خلال حركة الناس لاكتساب الحقوق، وتم هذا التبلور بمنطق المركب الذي تتكون عناصره مع التطور التاريخي ،وكان كل عنصر يعبر عن بعد من أبعاد المواطنة تتم إضافته للمركب بحسب حركة الناس والسياق التاريخي.
ويمكن رصد مراحل تكون أبعاد المواطنة كما يلي:
• في البدء كانت المساواة أمام القانون أي المواطنة المدنية Civic Citizenship.
• ثم تحقق التمثيل السياسي في المجالس النيابية فعرفت المواطنة في بعدها السياسي Political Citizenship.
• و مع التطور الاجتماعي والطبقي عرفت المواطنة في بعديها المركب الاجتماعي – الاقتصاديSocio- Economic Citizenship.
• و مع تنامي صعود الهويات الثقافية:الدينية والعرقية والجنسية ،عرفت المواطنة الثقافية Cultural Citizenship .

ومع اكتمال المواطنة بأبعادها، بغض النظر عن الدرجة والنوعية التي تتوقف على مدى التطور الذي يختلف من سياق لآخر، تعددت تعريفات المواطنة، وعرفت نظرياتها المختلفة: الليبرالية،والمجتمعية،والراديكالية الديمقراطية،وهو مقام شرحه يطول، ويفيد معرفة النظريات التي تعبر عن تطور المواطنة في صحة ما نعمل لبلوغ المواطنة بأبعادها المتنوعة بعد أن عرفنا أنها متعددة العناصر بيد أنه يمكن أن نطرح تعريفا للمواطنة في ضوء الخبرة التاريخية الغربية والمصرية التي يمكن القول أنها عرفت إرهاصات المواطنة(وقد قمنا بطرح ما أسميناه مراحل المواطنة الخمس في مصر من محمد علي وإلى الآن في كتابنا المواطنة والتغيير) وتطور النظريات المتعاقبة كما يلي:

* تعبير عن حركة الناس اليومية مشاركين و مناضلين من أجل نيل الحقوق بأبعادها المدنية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية و الاقتصادية على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب, و اندماج المواطنون في العملية الإنتاجية بما يتيح لهم تقاسم الموارد العامة و الثروة الوطنية مع الآخرين الذين يعيشون معهم في إطار الوطن الواحد.
وتأتي أهمية التعريف في أنه يضع إطارا لفهم المواطنة التي تم اختبارها في بلدان مختلفة عمليا وتم التنظير لها في ضوء الخبرة العملية التي تمت لهذه البلدان. ويحسب للعالم البريطاني همفري مارشال أنه أول من نظر للمواطنة في دراسة شهيرة له حول المواطنة والطبقة الاجتماعية..وكانت كتاباته بداية لمئات الاجتهادات في هذا المقام منها اجتهادات تيرنر وبيندكس وكيمليكا وديلانتي و هابرماس وستيينبرجن...الخ. وتكمن أهمية مارشال(وقد قمنا بتعريف القارئ العربي لأهم ما جاء في دراسته الرائدة في كتابنا المواطنة والتغيير) في أنه وضع إطارا نظريا شاملا استوعب من خلاله تجربة الدولة القومية وتتبع مراحل تبلور المواطنة وأنها تتكون من عناصر ثلاثة..وربطها بالبناء الاجتماعي وببنية الدولة والنمط الاقتصادي السائد...الخ.
فالمواطنة لديه لا تتحرك في فراغ،
أو إنها قيمة سكونية منبتة الصلة عن القوى الاجتماعية المختلفة ومصالحها،
أو إنها نص.. فما قيمة النص إن لم يكون له تجسيد فعلي في الواقع،
أو أنها تساوي الانتماء والولاء حيث لا يتم التمييز بين الجانب المادي للمواطنة
المرتبط بالواقع ومدى إمكانية ممارسة المواطنة، وبين الجانب المعنوي حيث
الهوية والولاء،
أو أن المواطنة حكر على مجتمع بعينه وإنها بنت سياق بعينه،
أو إنها قاصرة فقط على العلاقات بين أبناء الأديان،
بلغة أخرى المواطنة ممارسة مادية في الواقع يسعى إلى ممارستها الفرد لتغيير ما يعوق دون حصوله على الحقوق..فهي جهد إنساني يسعى إليه كل إنسان في أي مكان، ويتعمق الانتماء كملمح من ملامح المواطنة في بعدها المعنوي..أي متى مورست المواطنة يشعر المرء بالانتماء...
وقد ساهمت هذه الأدبيات التي أدعو لتبني مشروع قومي لترجمتها، في أنها وضعت الحدود بين أدبيات الفكر السياسي الكلاسيكي وأدبيات الديمقراطية..بمعنى أنه لا يستقيم أن نستدعي في كتاباتنا أفكار أرسطو أو جان جاك روسو أو لوك،فقط، عند الحديث عن المواطنة لأن هناك بعض الأفكار حول المواطن في كتاباتهم من دون التعرض من قريب أو بعيد لمن اجتهدوا في مجال المواطنة في ضوء الواقع العملي. كما لابد من الالتزام بالشروط التي وضعها موريس روش في كتابه Rethinking Citizenship ،عند الحديث عن المواطنة،حيث قال أنه لا يمكن التكلم عن المواطنة إلا بتوفر الشروط الثلاثة التالية:
1. دراسة طبيعة المواطن في لحظة تاريخية معينة، والمجتمع الذي يعيش فيه من حيث تطوره ونظامه الاقتصادي والسياسي.
2. سياق الهيكل الاجتماعي الذي يتحرك فيه المواطن وتمارس فيه المواطنة.
3. تاريخية التغيير وطبيعته لكل من المواطنة والسياق الذي تتحرك فيه.
فدراسة النظام الاقتصادي القائم يمكنها أن تحدد وضعية المواطنة التي يتسم بها المواطنون، وتأثير أشكال التنظيم الأولية وحدود دورها على المواطنين، ومسار المواطنة ومتى اقتربت من التحقق وما العوائق التي منعت ذلك...هناك معايير كثيرة تعرضنا لها من قبل توضح مدى تحقق المواطنة بأبعادها وأسباب تعثرها تطرقنا إليها من قبل...

المواطنة الاجتماعية:مواطنون لا رعايا / شركاء لا أقنان

وعليه فأن ربط المواطنة بالعدالة الاجتماعية يحتاج إلى تغيير جذري في البنية الاجتماعية والاقتصادية وإلا سيكون مجرد إحسانات مادية أو تخصيص موازنات مالية للمحتاجين،دون أن يترتب على ذلك تغيير في البناء الاجتماعي القائم بما يفيد التقدم ... كما أن تقييد المواطنة وجعلها مشروطة بأقصى ما تسمح به قدراته يناقض المواطنة نفسها، وهنا نشير إلى المراجعات التي تمت في السياق الأوروبي لتجاوز سلبيات تطبيق الليبرالية الاقتصادية بصورتها الكلاسيكية على المساواة في حقوق المواطنة فيما عرف بتجديد الجمهورية ٌRepublic Renewal.
فلقد وجد أن نظام السوق المفتوح قد أدى إلى سطوة الأقلية الثروية فباتت المشاركة السياسية حكرا لمن يملك ومن ثم تضعف الديمقراطية،تتشظى الجماعة السياسية إلى جماعات فرعية تبتعد عن المجال العام الجامع للمواطنين إلى المجالات الخاصة،وتصبح المصلحة الفردية والهويات الفرعية والاقتصاد المفتوح بلا ضوابط عناصر مقاومة لتحقق المواطنة.وعليه بدأ الحديث عن تطوير النظرية الجمهورية للمواطنة القائمة على الليبرالية الديمقراطية وذلك بالأخذ في الاعتبار تعزيز الالتزام الفاعل والعضوي في النظام السياسي المشترك لكل المواطنين بغض النظر عن أي اختلافات بينهم،فيتحقق المجتمع الديمقراطي بمشاركة الكل فلا تكون الديمقراطية" للقلة الثروية".
كما وضع المعنيون بهذه القضية معيارا يميز بين الليبرالية الكلاسيكية وبين الجمهورية الجديدة التي تراعي البعد الاجتماعي هذا المعيار هو" الخير العام"،والذي لا يعني حاصل جمع مصالح الأفراد،وإنما المصلحة العليا للوطن بحيث يحدث التوازن بين الخاص والعام،فلا يجور أحدهما علي الآخر. وهكذا تتجدد الجمهورية التي تقوم على المواطنة قد تم تجاوز هذا المعنى الذي يعود للنظرية الليبرالية والتي قد تكون حائلا في أن تصل المواطنة للجميع فلا يمارسها إلا من يملك أو لديه مكانة..لذا طرحت فكرة تجديد الجمهورية بتطوير مفهوم المواطنة
في ضوء ما سبق، نخلص إلى أن المواطنة أكثر من نص أو قرار فوقي أو منحة أو ميزة يحصل عليها فرد دون غيره أو تحظى بها جماعة دون غيرها..إنها منظومة تتحقق في المجتمع بفعل جهد هذا المجتمع بكل مكوناته في إطار اقتصاد إنتاجي لكل مواطن دور فيه يصبح بموجبه شريكا وليس قنا.. وفي مواجهة بيروقراطية متضخمة تحاصر المواطنة باللوائح..وتعبئة مجتمعية تقوم على تعبئة الهويات الخاصة فتتناحر فيما بينها.. لذا هناك فرق بين المواطنين والرعايا..ففي دولة المواطنة يكون المواطن مشارك وقادر على المحاسبة والمراجعة لا ينتظر منحة من أحد..وفي دولة المواطنة يكون المواطن الذي يملك والذي لا يملك شريك في الثروة العامة للبلاد بأشكال مختلفة أي شركاء لا أقنان..وفي دولة المواطنة تكون الخصوصيات الثقافية في حالة مساواة في إطار آليات اندماج لا تنفي أو تستبعد خصوصية من الخصوصيات وبغض النظر عن الوزن النسبي لكل خصوصية...هنا تتحقق المواطنة الواقعية..فلا تعد افتراضية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s