دراسة في التطور التاريخي للمساواة من منظور المواطنة...2

حاولنا علي مدي الحلقات الثلاث الماضية أن نتتبع المسار التاريخي للمساواة من منظور المواطنة، بداية من العالم القديم إلي يومنا هذا..كانت مقاربتنا تنطلق من تتبع حركة المواطنين في نضالهم من أجل المساواة أحد أهم عناصر المواطنة..فلا مواطنة حقيقية بغير مساواة..فالمساواة أحد تجليات المواطنة في الواقع..


لقد انطلق السؤال، أولا، “ما أصل التفاوت بين البشر؟”(إذا ما استعرنا تعبير روسو)، من علي أرضية الفلسفة..بيد أنه مع التطور الاقتصادي والاجتماعي للبشرية وانخراط الناس في صراعات الواقع المجتمعي، تبين أن “التفاوت/اللامساواة”، تعبير عن خلل ينتج عن ” امتيازات يتمتع بها بعض الناس ـ وهم أقلية ـ إجحافا بحقوق الآخرين ـ الأغلبية ـ “..
وكشفت الأزمات الاقتصادية الكبري، بداية من أزمة 1929من القرن الماضي، ثم الأزمات الاقتصادية المتعاقبة ـ كما أوضحنا ـ الناتجة عن الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة مع مطلع الربع الأخير من القرن العشرين،عن أن المساواة هي القضية الكلية والكبري التي ينشغل بها العالم ويحاول أن يوفرها للبشرية..لذا ليس غريبا أن تكون”المساواة”هي العنوان الأبرز للجدل الكوني الفكري والعملي: السياسي والاقتصادي والاجتماعي..ومن الأهمية أن نقترب منه..

(1)
من أهم الوثائق التي تعكس حضور مفردات جديدة تعد تحولا نوعيا ـ نسبيا ـ عن الخيار النيوليبرالي هو ما جاء في رسالة أوباما لمجموعة العشرين في يونيو الماضي حيث ورد فيها:”..وتعتمد قدرتنا علي تحقيق عودة مستدامة لاقتصاد عالمي قوي علي قدرتنا علي تحقيق نمط من نمو الطلب العالمي يتجنب التفاوتات التي ظهرت في الماضي.في بيتسبرج،اتفقنا علي أن الدول ذات الفوائض الخارجية بحاجة لتعزيز المصادر المحلية للنمو. وسيتعين علي القادة والحكومات أن يقرروا لأنفسهم السبيل لتحقيق هذا الهدف. في بعض الدول، من شأن تعزيز شبكات الضمان الاجتماعي تعزيز مستويات منخفضة من الاستهلاك…ويجب أن نتحلي بالمرونة في تكييف وتيرة جهود تعزيز الاقتصاد وتعلم الدروس المستفادة من الأخطاء التي وقعت بالماضي عندما جري سحب المحفزات الاقتصادية بسرعة مفرطة وأسفر ذلك عن تجدد مصاعب اقتصادية وركود..”.

كما وضع علي القطاع المالي مسؤولية “..إقرار إطار عمل أكثر فاعلية لتفكيك الشركات العالمية الكبري، بجانب مبادئ للقطاع المالي تمكنه من تقديم إسهام عادل ومهم في تحمل أي أعباء يخلقها علي نحو يحمي دافعي الضرائب ويخلق مستوي من تكافؤ الفرص..”، لكل المواطنين.
وتعد هذه الكلمات بالإضافة للتوجهات التي تسير فيها القمم الاقتصادية المتعاقبة منذ وقوع الأزمة الاقتصادية منذ سنتين، محاولة لتجاوز السياسات النيوليبرالية وآثارها السلبية وعلي الأخص التفاوت البارز بين البشر..وانطلق الجدل حول إمكانية تحقيق المساواة من خلال تساؤلات أربعة مثلت الإطار الفكري الحاكم للجدل حول المساواة وذلك كما يلي:

أولا: إذا كانت السياسات النيوليبرالية لم تؤد إلا إلي فجوة كبيرة في توزيع الدخل والثروة بين البشر ومن ثم إلي تفاوت ضخم بين الأقلية الثرية والأغلبية الفقيرة،فلماذا القبول باستمرار هذه السياسات؟
ثانيا: أن كثيرا من العمليات الاقتصادية ـ وبحسب ما كشفت عنه أزمة 2008ـ هو نتاج عمليات مالية معقدة لا تعكس تنمية اقتصادية حقيقية نوعية في البُني المجتمعية المتنوعة، بقدر ما تعكس نموا كميا للثروات لأفراد معدودين وفي نفس الوقت يدفع ثمن الأزمة أصحاب الدخول الوسطي والمحدودة فاتورة الحساب الاجمالية لمغامرات هؤلاء الأفراد وذلك من فقدان لوظائفهم أو لمساكنهم..الخ،(يمكن مراجعة مجلة فوربس مطلع هذا العام حول زيادة عدد المليارديرات في العالم بالرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية)..وبالتالي هل من العدل والإنصاف الاستمرار بنفس الكيفية؟
ثالثا: هل كتب علي الشرائح الاجتماعية الوسطي والدنيا أن تتحمل وحدها تداعيات الأزمة؟
رابعا: كيف يمكن تأسيس نظم قادرة علي توفير العدالة والإنصاف وجعل المساواة حاضرة دوما؟

(2)
في هذا السياق، كثرت الاجتهادات والأفكار حيث صدرت العديد من الكتب المعتبرة..وتوالت المؤتمرات والندوات (تضمنت مساهمات ذات مستوي علمي رفيع )..وكانت القضية المحورية لهذه الأفكار هي قضية “المساواة” باعتبارها أحد أهم تجليات المواطنة والتي من شأنها أن تعكس حال المواطن في الواقع.. وعليه شهدنا ما يلي:
في فنلندا 2008مؤتمر يناقش: مراجعات نظرية وعملية لدولة الرفاهة والسياسات الاجتماعية المتبعة، وتناولت الأوراق دراسات ميدانية للعديد من الدول من جهة، ولكل الفئات الاجتماعية من مسنين لأطفال لنظم رعاية صحية وتأمينية..الخ.
في إيطاليا 2009مؤتمر يناقش: “مستقبل دولة الرفاهة:مسارات لسياسات اجتماعية مبتكرة؛ الفرص والمعوقات”
في أمريكا اهتمت مراكز البحث التقدمية والأكاديميون من خارج الأطر التقليدية المحافظة من الأجيال الجديدة بدراسة “اللامساواة”وتحديات التنمية مع نقد حاد لليبرالية الجديدة..وهنا يمكن أن نذكر ما يلي:
1- الليبرالية الجديدة لسوزان جورج.
2- اللامساواة Inequality
3- الأزمة الملحة: اللامساواة وتحدي التنمية.
4- الأزمة المالية العظيمة:الأسباب والتداعيات.
5- وكتابات حائزي نوبل مثل بول كروجمان وغيره.
6- ديمقراطيات ثرية وأناس فقراء.
7- في تفعيل المساواة والاندماج.
8- العدالة الاجتماعية والليبرالية الجديدة.
9- الليبرالية الجديدة قراءة نقدية.
وحول أسباب ما جري اتفق أصحاب الاجتهادات المختلفة علي أن سياسات الليبرالية الجديدة هي التي أدت إلي ما نحن فيه..بداية اُتفق علي وصف أزمة 2008″بالانهيار الاقتصادي ـ المالي الأسوأ في مسيرة الرأسمالية العالمية.ومن ناحية أخري لم يختلف أحد علي أن الإفراط في التمويل،والرهونات والغياب الذي يكاد يكون تاما للتوزيع العادل للدخل بين المواطنين أحد أهم أسباب الأزمة أو الركود..وكان السؤال الأساسي الذي بنيت عليه هذه الاجتهادات هو السؤال الآتي:
× كيف يمكن تحقيق المساواة بين البشر، المساواة في ظل تفاوت اجتماعي حاد ليس فقط في الدول الفقيرة والنامية في الجنوب / الأطراف، وإنما في الدول الغنية في الشمال / المركز؟
وعليه لابد من إعادة النظر في السياسات النيوليبرالية وإعادة وضع تصورات جديدة تتعلق بالسياسات الاجتماعية والعمالة وتعزيز الإنفاق الاجتماعي المنتج وغير الريعي كالإنفاق علي الخدمات التربوية والتعليمية..وبدقة أكثر بدأ الجميع التفكير في المحاور التالية:

1- مستقبل النظام الاقتصادي، والسياسات التنموية والاجتماعية التي سيتم الأخذ بها.
2- مستقبل المساواة في سياق هذا النظام بسياساته التنموية والاجتماعية قيد البحث، المساواة التي هي جزء لا يتجزأ من المواطنة: المساواة بين المواطنين بغض النظر عن اللون والجنس والدين والعقيدة والمذهب والمكانة والثروة والجيل والعرق…
3- كما تناولت النقاشات سؤالا جديا هو: أي مواطن نريد تنميته في ضوء العلاقة المعقدة بين الدولة والسوق التي تم تشبيكها بينهما علي مدي عقود ثلاثة منذ أن تم التسويق لاقتصاد السوق.
4- إعادة تعريف الكثير من المصطلحات، وتقييم السياسات الاجتماعية في الخبرات المختلفة، ودراسة الآثار المختلفة علي السياسات الاقتصادية النيوليبرالية علي دول العالم كذلك علي المناطق المختلفة الريفية والحضرية.
5- دراسة سياسات الاندماج وأسباب التهميش والاستبعاد، في ضوء المساواة أو انعدامها .
(3)

قد تناولت هذه النقاشات الكثير من المراجعات وذلك “لتخفيف حدة ووجوه اللامساواة” في المجتمع (بحسب عالم الاجتماع الكبير أنتوني جيدنز صاحب المراجع العلمية المهمة حول الحداثة، وقضايا نظرية في علم الاجتماع، وبعيدا عن اليمين واليسار، والطريق الثالث، وموسوعة علم الاجتماع المعروفة باسمه والتي طبع منها تسع طبعات)،والتي تسببها الآثار السلبية لسياسات “اقتصاد السوق”علي حياة الناس الذين يجدون مشقة، ولأسباب مختلفة ،في تلبية ما يحتاجون إليه من حاجات أساسية..وأصبحت المساواة بندا أساسيا في النقاشات السياسية والاقتصادية الدائرة..ومحورا بارزا في كل الحملات الانتخابية التي أجريت في العامين الأخيرين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية..
إن الجدل الدائر حول اللامساواة التي كشفت عنها الأزمة الاقتصادية الأسوأ، عكس طبيعة رأس المال المستخدم في العملية الاقتصادية وأنه احتكاري الطابع ويؤدي إلي زيادة في الدين العام والخاص،وضعف الإنتاجية،وتراجع للأجور وزيادة البطالة لحد خطر، وإحداث ارتباك واضطراب اقتصادي عالمي وبالأخير اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.

إن حديث المساواة تطرق إلي إعادة الاعتبار إلي دراسة البنية الاجتماعية والاهتمام العلمي برسم الخريطة الطبقية للمجتمعات المختلفة وما طرأ عليها من مستجدات وهنا يمكن مراجعة ” Redrawing the Class Map “،والذي تناول عددا من الدول الأوروبية، وأيضا بدء الانشغال الجاد بالطبقة الوسطي الموحدة ـ إن جاز التعبير ـ التي تشكلت عبر الحدود بفعل العولمة والاستهلاك النمطي العابر للحدود وهنا يمكن مراجعة The New Middle Classes -2009 ..حتي الولايات المتحدة الأمريكية انتشرت فيها دراسات لم تكن مألوفة تاريخيا في مجالات العدالة الاجتماعية ونقد الرأسمالية والبنية الطبقية والحركة النقابية..نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
× العدالة العرقية في زمن أوباما Racial Justice in Age of Obama
× الفقر الأمريكي في زمن جديد من الإصلاح American Poverty in a New Era of Reform
× اختراع فرص متكافئة Inventing Equal Opportunity
× اليسار يطل من جديد:الاتحادات الصناعية الحمراء الأمريكية Left Out: Red’s & America’s Industrial Unions
× الفقر في أمريكا Poverty in America

خلاصة القول: يدور في العالم الآن جدل معتبر حول المساواة..ومقولة مارشال التي بزغت عقب أزمة 1929والتي تقول بضرورة “المساواة للجميع”، تتم استعادتها مرة أخري.. نعم الزمن غير الزمن بيد أن الدرس المستفاد من الأزمة الاقتصادية الأخيرة أنه لا يمكن أن تستمر الحياة في ظل سياسات تبين فشلها وأنه لابد من تبني خيار مغاير يضمن المساواة وأن تتوافر السياسات التي تجعلها حقيقة قدر الإمكان..
الحلقة الخامسة والأخيرة:المساواة أفكار وسياسات

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern