نواصل حديثنا عن حركة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية، باعتبارها أحد أهم الحركات الدينيةالتى عرفتها الخبرة الإنسانية فى النصف الثانى من القرن العشرين…وكيف نجحت أن تقدم خطابا دينيا متجددا ومعاصرا وواقعيا ومواكبا لاحتياجات الناس ودافعا لهم لتغيير أنفسهم ومن ثم تغيير الواقع…
فى هذه الأثناء تبلورت ما عرف بمدرسة نظرية التبعية التى أسهمت فى فهم أسباب تخلف القارة اللاتينية (على يد أندر فرانك، و دو سانتوس، وسلسو فرتادو، وأوسفالدوسنكلي)…وقد كان لهذه المدرسة اثرها فى ميلاد جيل من رجال الدين الذين استطاعوا أن يفهموا أن هذا الواقع الأليم ليس «قدرا»؛ وإنما هو نتاج علاقات اجتماعية غير عادلة. وعليه لابد من المعالجة الجذرية. ولخصوا ما سبق فى عبارة دالة هي: «الفقر أصل كل الشرور»؛ وعليه لابد من فهم ودراسة وحصر ومواجهة هذه الشرور التى تتجاوز دلالتها الروحية إلى ما هو أكثر من ذلك… شكل ما سبق نقطة انطلاق لإعادة تشكل كل من: أولا: النظرة الدينية تجاه الواقع، ثانيا: ابتكار خطاب دينى ينحاز للعدل والمساواة وتجديد الانسان كليا، ثالثا: أن ينزل أعضاء هذه الحركة إلى الناس يشاركونهم معاناتهم ويعملون معهم على تغيير الواقع، فلا يقف الأمر عند الوعظ أو تقديم خدمات خيرية أو توظيفهم سياسيا فى لعبة لا تخصهم، ولكن أن يعانوا مثلما يعانى هؤلاء المحرومون.
كانت الكلمات الثلاث المفتاحية المكونة لأنصار الحركة الجديدة هي: إثارة الوعي، التحرر، ودفع المواطنين للمشاركة العامة؛ بحسب توجهاتهم دونما أى تدخل من الحركة…فى هذا السياق اكتشفت عناصر حركة لاهوت التحرير أن العناصر الثلاثة المطروحة لا تكفى أن تنتج خطابا دينيا متكاملا وعميقا ومتكاملا. وعليه بالإضافة إلى الخبرة العملية التى تم اكتسابها من التعامل المباشر مع الناس والتعاطى مع المشكلات مباشرة أنهم فى حاجة للانفتاح على جديد العلم فى مجالات: التنمية ونظرياتها وتجاربها، ومدارس التأويل المعاصرة، والاستفادة من التحليل التاريخى الاجتماعى للمجتمعات، ونظريات علم النفس والاجتماع فى موجاتها الجديدة(مدرسة فرانكفورت، حركة اليسار الجديد، أفكار إيريك فروم،…،إلخ)، أى تجاوز ما هو علم مدرسى نمطى تقليدى عاجز عن تفسير واقع القارة اللاتينية… ثم كيف يمكن أن يعين كل ما سبق فى بلورة لاهوت متجدد غير مدرسي، حيث يتم التعبير عنه فى خطاب دينى يعبر عن واقع الناس ويلمس همومهم ويعكس تطلعاتهم الحياتية. خطاب دينى معنى بالقضايا الكبيرة…فى حالة لاهوت التحرير كانت قضية «التحرر» هى القضية الأساسية التى شغلت حركة لاهوت التحرير…أى تحرر، وتحرر من ماذا؟، ولماذا؟ وكيف؟…نجيب فى مقالنا القادم…ونتابع…