الخطاب الدينى للاهوت التحرير: فلسفته ومضمونه

خطاب دينى الزيارات: 2575

نواصل حديثنا عن حركة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية، باعتبارها أحد أهم الحركات الدينيةالتى عرفتها الخبرة الإنسانية فى النصف الثانى من القرن العشرين…وكيف نجحت أن تقدم خطابا دينيا متجددا ومعاصرا وواقعيا ومواكبا لاحتياجات الناس ودافعا لهم لتغيير أنفسهم ومن ثم تغيير الواقع…

 من دون أن تدخل الحركة فى تنافسات سياسية أو تتورط فى أن تكون طرفا فى المعادلة السياسية… بلورت حركة لاهوت التحرير خطابها انطلاقا من الواقع الأليم الذى تعرضت له القارة اللاتينية منذ الاستعمار الاستيطانى الأوروبى الذى حل عليها فى منتصف القرن الخامس عشر، وظل مسيطرا على مقدراتها ينقلها إلى القارة الأوروبية. ولما بدأ ينصرف عن القارة ترك الكريول (تحالف الاقطاع ورجال الدين) لحكم القارة نيابة عنه فى ظل علاقات تبعية معقدة، أودت بها إلى واقع من العوز والحاجة والقهر…وهناك قصة دالة تعبر عن هذا الواقع الأليم. جرت القصة فى البرازيل مطلع السبعينيات. وباتت قصة كلاسيكية تتواتر فى كثير من أدبيات لاهوت التحرير(مصدرها كلودفيسبوف أحد رواد الحركة)؛ تقول القصة:«فى يوم من الأيام، وفى إحدى المناطق القاحلة فى شمال شرق البرازيل والأكثر إصابة بالمجاعات فى العالم .
قابل كلودفيسبوف أحد الأساقفة عائداً إلى منزله فى حالة انهيار فسأله ماذا بك ؟:فأجابه : لقد رأيت على التو مشهداً مروعاً ، فأمام الكاتدرائية كانت توجد امرأة مع ثلاثة أولاد وطفل رضيع ملتصق برقبتها، ووجدتهم فى حالة إعياء وأقرب إلى الإغماء من الجوع . والطفل الوليد يكاد يكون ميتاً. فقلت للمرأة: أرضعيه لبنافأجابته لا أستطيع يا سيدي.فألح عليها الأسقف. فأجابته بالإجابة نفسها.وبسبب إلحاحه كشفت المرأة عن صدرها وكان ينزف دماً وقد رضع الطفل دماً «. هذه القصة وغيرها الكثير على المستوى الإنساني، بالإضافة لواقع التبعية الاقتصادية آنذاك ـ، قد دفع رواد حركة لاهوت التحرير يطرحون السؤال التاريخى كيف نقبل أن تعيش شعوبنا هذا الواقع الأليم، خاصة وقد تداخلت ثلاثة عوامل كارثية فاقمت من أحوال البلاد والعباد وذلك كما يلي: أولا فشل نموذج التنمية الذى طرح فى خمسينيات القرن الماضي، ثانيا تصاعد أعمال القهر السلطوى على الجماهير، ثالثا صمت المؤسسات الدينية عما يجرى وعدم قدرتها على عمل شيء للمتضررين.

فى هذه الأثناء تبلورت ما عرف بمدرسة نظرية التبعية التى أسهمت فى فهم أسباب تخلف القارة اللاتينية (على يد أندر فرانك، و دو سانتوس، وسلسو فرتادو، وأوسفالدوسنكلي)…وقد كان لهذه المدرسة اثرها فى ميلاد جيل من رجال الدين الذين استطاعوا أن يفهموا أن هذا الواقع الأليم ليس «قدرا»؛ وإنما هو نتاج علاقات اجتماعية غير عادلة. وعليه لابد من المعالجة الجذرية. ولخصوا ما سبق فى عبارة دالة هي: «الفقر أصل كل الشرور»؛ وعليه لابد من فهم ودراسة وحصر ومواجهة هذه الشرور التى تتجاوز دلالتها الروحية إلى ما هو أكثر من ذلك… شكل ما سبق نقطة انطلاق لإعادة تشكل كل من: أولا: النظرة الدينية تجاه الواقع، ثانيا: ابتكار خطاب دينى ينحاز للعدل والمساواة وتجديد الانسان كليا، ثالثا: أن ينزل أعضاء هذه الحركة إلى الناس يشاركونهم معاناتهم ويعملون معهم على تغيير الواقع، فلا يقف الأمر عند الوعظ أو تقديم خدمات خيرية أو توظيفهم سياسيا فى لعبة لا تخصهم، ولكن أن يعانوا مثلما يعانى هؤلاء المحرومون.

كانت الكلمات الثلاث المفتاحية المكونة لأنصار الحركة الجديدة هي: إثارة الوعي، التحرر، ودفع المواطنين للمشاركة العامة؛ بحسب توجهاتهم دونما أى تدخل من الحركة…فى هذا السياق اكتشفت عناصر حركة لاهوت التحرير أن العناصر الثلاثة المطروحة لا تكفى أن تنتج خطابا دينيا متكاملا وعميقا ومتكاملا. وعليه بالإضافة إلى الخبرة العملية التى تم اكتسابها من التعامل المباشر مع الناس والتعاطى مع المشكلات مباشرة أنهم فى حاجة للانفتاح على جديد العلم فى مجالات: التنمية ونظرياتها وتجاربها، ومدارس التأويل المعاصرة، والاستفادة من التحليل التاريخى الاجتماعى للمجتمعات، ونظريات علم النفس والاجتماع فى موجاتها الجديدة(مدرسة فرانكفورت، حركة اليسار الجديد، أفكار إيريك فروم،…،إلخ)، أى تجاوز ما هو علم مدرسى نمطى تقليدى عاجز عن تفسير واقع القارة اللاتينية… ثم كيف يمكن أن يعين كل ما سبق فى بلورة لاهوت متجدد غير مدرسي، حيث يتم التعبير عنه فى خطاب دينى يعبر عن واقع الناس ويلمس همومهم ويعكس تطلعاتهم الحياتية. خطاب دينى معنى بالقضايا الكبيرة…فى حالة لاهوت التحرير كانت قضية «التحرر» هى القضية الأساسية التى شغلت حركة لاهوت التحرير…أى تحرر، وتحرر من ماذا؟، ولماذا؟ وكيف؟…نجيب فى مقالنا القادم…ونتابع…

 
طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s