25 يناير.. تحولات كبرى وإعاقات خطرة...(2)

25 يناير 2011 ، هو نقطة فارقة فى حياة المصريين. أطلق حراكا لم يزل حيا إلى الآن. فبكل المقاييس؛ التاريخية: المصرية والعالمية، والعلمية: الوطنية والمقارنة. أنجز هذا الحراك أربعة تحولات كبرى فى الواقع المصرى (راجع مقالنا الأخير فى الشروق 11/2 الماضى). هذه التحولات نذكرها كما يلى: أولا: التحرك القاعدى للمواطنين، وثانيا: مواجهة النظام الأبوى، ثالثا: إسقاط القداسة والعصمة عن السلطة/الحاكم، رابعا: إسقاط الشمولية…تحولات تاريخية يصعب الارتداد عليها بل ينبغى التراكم عليها من أجل مصر جديدة حداثية. ولكن فى مقابل هذه التحولات «الكبرى» هناك إعاقات «خطرة» تعطل عملية التحول التاريخية…فما هى هذه الإعاقات.

الإعاقة الأولى: التأسيس الدينى للدولة المصرية

على الرغم من كثرة حديث الإسلام السياسى عن أن مرجعية الدولة فى الإسلام مدنية. إلا أن المتابع للخطاب الدينى المنتشر سيجد، أنه خطاب يميل إلى رؤية تقود مصر إلى أن تكون دولة دينية ـ بامتياز ـ. يسقط هذا الخطاب ما أنجز فى الدولة المصرية الحديثة من محاولة ـ أظنها مبدعة ـ للمصالحة بين الدين والسياسة. وهى المحاولة التى عبر عنها الإمام محمد عبده من جانب والسنهورى من جانب آخر، وغيرهم فيما يتعلق بطبيعة السلطة فى الإسلام ، وطبيعة المجال العام، وفى علاقة الدين والدولة. وفى هذا الشأن يقول الإمام محمد عبده نصا: «إنه ليس فى الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة…وأن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها…وأن الحاكم مدنى من جميع الوجوه. (الأعمال الكاملة، ج1، ص 106). ولا ينفى الإمام وجود السلطان الدينى والسلطة الدينية عن القيادة السياسية العليا للمجتمع فحسب، بل وينفى اعتراف الإسلام بها أو إقراره لها بالنسبة لأية مؤسسة من المؤسسات التى تمارس سلطة من السلطات. ويقول الإمام: «إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهى سلطة مدنية قدرها الشرع الإسلامى، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعى حق السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربه، أو ينازعه فى طريقة نظره».(الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة،ج1،ص 108). ويأتى فى هذا السياق الجهد الإبداعى المصرى فى المصالحة بين الشريعة الإسلامية وجديد البنية القانونية العالمية (راجع الدراسة الأكاديمية عن السنهورى التاريخى لاستيعاب حركة المجتمع والناس، «مدونة السنهورى القانونية، إصدار الشبكة العربية للأبحاث،2009). إن محاولة التأسيس الدينى لمصر هى محاولة ضد ما هو مستقر. وأقصد به المصالحة التاريخية بين الدين والسياسة والتى هى فى الواقع تعبر عن توافق مجتمعى تام. بينما التأسيس الدينى للدولة يعنى التغيير لصالح فئة على حساب الآخرين.

الإعاقة الثانية: الإقصاء السياسى

فى ضوء التأسيس الدينى للدولة بدأ نشر خطاب إقصائى ضد المعارضين وفق مفردات دينية. فالحاكم كونه ولى الأمر عليه أن يضرب بيد من حديد الخارجين عليه من الرعية. أو تصوير المعارضة باعتبارها معارضة علمانية غربية تتحالف مع الصليبيين. إنها نفس المنهجية التى بدأت منذ السبعينيات من خلال وصف استخدمناه مبكرا هو «تديين المجال العام»، أو إذا ما أردنا تعميقه بعض الشيء «إصباغ المقدس على العملية السياسية /المدنية». ويكون السؤال هل استخدام الصندوق يعنى إعادة انتاج نظام سياسى إقصائى عانينا منه كلنا على اختلافنا؟ ولماذا تصور الأقباط ككتلة دينية صماء متماثلة العناصر وأن الرابطة الدينية هى الحاكمة فى حركتهم السياسية/المدنية؟ ومن ثم ترويعهم وتهديدهم نظرا لانتمائهم الدينى؟ ألم يخرج أحمد لطفى السيد وسعد زغلول ورشيد رضا من عباءة الإمام محمد عبده، ما يعنى ان مصر تحتمل التنوع. وانه من الأهمية الحفاظ على ذلك وفق قواعد اللعبة السياسية والمدنية؟ والا يعكس الارتداد على مفردات دينية فى السياق السياسى/ المدنى ان ردة قد حدثت تعود بنا إلى ما قبل الدولة الحديثة من جهة، وإلى إعاقة أهم ما جاءت به من تحولات انطلاقة حراك 25 يناير كما أشرنا؟

وهل إذا أقصينا العلمانيون والأقباط والمرأة هل تستقيم الحياة السياسية / المدنية فى مصر؟ أخذا فى الاعتبار أن هؤلاء لا يتحركون فى مواجهة الدين ـ كما يحب أن يصورهم البعض ـ وإنما ضد الإقصاء والارتداد على منجزات الدولة الحديثة الوطنية وعلى التفسير الدينى الضيق التحريمى / التكفيرى. كما أن أحدا لا يتكلم عن المسألة الاقتصادية / الاجتماعية التى تحرك الحركة العمالية والفلاحية والفئات النوعية المتنوعة وهى حركات تضم ـ قطعا ـ علمانيون وأقباطا ونساءً بصفتهم النوعية لا الثقافية.

الإعاقة الثالثة: سياسة القبة الحديدية أو المسار الإجبارى اللاثورى

فى ظل الديناميكية الجديدة التى جاءت بها نتيجة انتخابات الرئاسة بدأت مصر مرحلة جديدة اختلفت فيها اللعبة السياسية. واختلفت مواقع أطرافها. وكان الكثيرون يحدوهم الأمل فى تحول ديمقراطى وفق قواعد جديدة فى ظل سياق جديد لم تعرفه مصر، رغم كل الملاحظات التى أثيرت حول خارطة الطريق. إلى ان جاء الإعلان الدستورى (22 نوفمبر الماضى) بقراراته «التحصينية» و«التقييدية»، وبإخلاله بالتوازن بين السلطات. وباستعداء القضاء وبتأسيسه لأجهزة موازية لها، قد أدت إلى إضعاف فى الشرعية ـ بدرجة أو اخرى ـ. وخاصة أن مجموع هذه الإجراءات قد ارتبطت ـ شئنا أو لم نشأ ـ بتمرير قسرى للدستور (بما به من عوار بدأت تظهر فى الواقع السياسى العملى بالإضافة إلى أنه غلب رؤية فئة على أخرى وهو بهذا المعنى عرفناه بدستور الغلبة (راجع مقالاتنا فى الشروق حول الدستور ـ 4 مقالات ـ). وهو ما يعنى تحول  من اكتساب للشرعية يقوم على الرضا إلى شرعية تقوم على الإكراه أو ما يمكن تسميته بشرعية الإكراه تعيدنا إلى فترة فى العصور الوسطى كانت الشرعية فيها لصاحب الشوكة والغلبة الأعلى.

إنها سياسة «القبة الحديدية»، والتى أخذت به السلطة لحصار الحالة الثورية والحيلولة دون الثورة. ونوجز عناصر هذه السياسة فى: «صناعة دستور الغلبة»، و«تأسيس شرعية الإكراه»، واستخدام «سلطة العنف»…فى ظل جولات حوارية بدأت بفيرمونت مرورا بالحوار مع مرشحى الرئاسة ثم القوى الوطنية والمجتمع المدنى إلى لجنة الحوار الوطنى والتى تبين كلها أنها لم تكن إلا مظلة لتبرير / لتمرير سياسة القبة الحديدية…التى هى فى الواقع الغطاء الحامى لمشروع جماعة بعينها يهدف إلى تغيير طبيعة الدولة المصرية المستقرة…مشروع لا يحقق العدالة بكل أنواعها لكل المواطنين ولا يدرك طبيعة مصر المركب الحضارى متعددة العناصر… إنه مسار إجبارى «لا ثوري» أجبرنا عليه بالرغم وأدى إلى انقسام البلاد وإلى عصيانها المتصاعد.

الحلف المقدس.. الاحتكار والاستئثار

من الإعاقات الحقيقية هو محاولة البعض من النخبة السياسية والاقتصادية إعادة انتاج القديم بشبكة مصالحه ومن ثم امتيازاته، بدعم المؤسسات القديمة التى تخدم على كل نظام سياسى طالما يوفر لها الاستمرار فى السيطرة على الناس كذلك الجماعات الأولية من قبائل وعائلات ريفية قديمة تريد الإبقاء على سطوتها. إنه «التحالف المقدس»(تعبير معروف فى تاريخ الثورات والانتفاضات و»الحراكات» الكبرى فى تاريخ الشعوب) التاريخى لعناصر النظام القديم التى تريد إعاقة التقدم والتغيير. فتحت شعار الاستقرار ودفع عجلة الانتاج يتبنى البعض الميل إلى القبول بلعب اللعبة السياسية بقواعدها القديمة. وقصر نفس الناس ـ وبخاصة ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى ـ  الجدد فى المجال السياسى الذين يراودهم حلم استعادة أوضاع يعتبرونها طيبة. ظنا منهم أن السياسة هى معركة الجولة الواحدة. وهو ما يعنى أن يعود الاحتكار بتجلياته والاستئثار القديم من قبل التكوينات القبل حداثية بالناس لمنع تحركهم القاعدى. هذا ناهيك عن الإعاقة الكبرى لجيل الشباب.

هكذا نكون استكملنا ما نراه «تحولات كبرى» جاءت بها 25 يناير…و «إعاقات خطرة» تهددها…

•••

ويبقى السؤال كيف الخروج من المأزق؟ أنا أثق فى مواطنينا وحسهم التاريخى الحضارى وفى أجيالنا الشابة التى أطلقت تحررنا من أجل مستقبل أكثر عدلا وكرامة وحرية مهما كانت الإعاقات خطرة، خاصة وأن التحولات كبرى بالفعل….

اقرأ المزيد هنا:http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=25022013&id=dbb8e84e-8eb7-4ac7-9f1b-06570fd00966

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern