الترجمة مدخلنا إلى العصر: الحاجة إلى خريطة معرفية (2)

الترجمة مدخلنا الى العصر الزيارات: 2712

تحدثنا فى مقالنا السابق عن مدى الانقطاع، الذى حدث عن جديد إبداعات العقل الإنسانى فى العديد من المجالات.. وأن مدارسنا القومية فى العلوم الاجتماعية والسياسية والتاريخية.. إلخ، قد توقفت عن متابعة الجديد منذ مطلع التسعينيات.. وأظن أنه حدث هذا بعد تعثر حركة الترجمة عن مواكبة هذا الجديد.. و«الترجمة لدينا ليست أن يجيد البعض لغات أجنبية، ويقوموا بعملية الترجمة بشكل انتقائى.. وإنما الترجمة لدينا هى «مكون أساسى من مكونات مشروع علمى ومعرفى ينبغى أن يتابع ويرصد ويتفاعل مع جديد المعرفة الإنسانية بشكل منهجى متواصل وشبكى»، لأن الموضوع الواحد بات من الصعوبة أن تنسبه إلى علم بعينه.. لذا نرى ما نراه فى بحوثنا العلمية من ابتعاد حاد عن الموجات المتتالية والمتعاقبة من مدارس الفكر وأجيال العلماء والباحثين والاجتهادات الجديدة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، وحتى نقرب ما نقصد للقارئ الكريم، نقول لا شك أن الظاهرة الدينية من خلال تجلياتها على أرض الواقع مثلت إحدى أهم الظواهر فى نصف القرن الأخير.. ولاشك أن مدرستنا القومية فى علم الاجتماع، ومن خلال المراحل الثلاث (التى أشرنا إليها فى المقال السابق التى مرت بها كل مدارسنا القومية العلمية: المرحلة القومية مع مطلع القرن العشرين، ومرحلة ما بعد الاستقلال وتأسيس مؤسسات متخصصة، ومرحلة الانتشار حتى نهاية الثمانينيات.. قد تناولت من خلال علم الاجتماع الدينى، الجديد فى العالم حتى مطلع التسعينيات.. وفجأة، وبالرغم من تنامى دور الدين فى المجتمع والثقافة والعالم والعلاقات الدولية، الذى كان من المفترض أن يواكبه جهد متزايد لفهم ما يحدث.. فإننا لا نجد صدى لموجات علم الاجتماع الدينى المتتالية، التى اجتهدت فى تحليل الظاهرة المتنامية فى علاقتها المتشابكة مع الكثير من القضايا.

والواقع، ومن خلال دراسة مسحية لخريطة هذا الموضوع يمكن القول بأنه بعد كتابات هيجل وماركس وفيبر ودوركايم التأسيسية، مرت الكتابات فى هذا المجال بثلاث موجات.. الموجة الأولى كانت ما بين الحرب العالمية الأولى والخمسينيات، والموجة الثانية التى يمكن تقسيمها إلى مرحلتين: مرحلة التحرر الوطنى من 1955 إلى 1979، ومرحلة المحافظة الدينية من 1979 إلى الآن، وأخيرا الموجة الثالثة التى بدأت تنظر إلى الأمر بشكل مركب.. وأظن أن اهتمامنا بنتاج كل مرحلة قد قل مع الوقت حتى كاد ينعدم لولا بعض الترجمات المتناثرة فى المشروع القومى للترجمة والمنظمة العربية للترجمة- وهو جهد مشكور ولاشك- بيد أن المسألة، كما قلت من قبل، لا تجد لها أثرا فى بحوثنا العلمية أو حواراتنا الفكرية.. لقد كانت المدرسة القومية فى علم الاجتماع فى وقت من الأوقات القناة التى عرفنا منها نظريات التنمية الحديثة ومدرسة التبعية.. إلخ.. وها نحن وإلى يومنا هذا بالرغم من أن الكل يتحدث عن الدين والعولمة فإننا لم نترجم كتابات مرجعية عالية القيمة لأسماء مثل: جيف هاينز(صاحب الدين فى سياسات العالم الثالث، والدين فى السياسات العولمية، والدين/العولمة والثقافة السياسية فى العالم الثالث). وبيتر بيير (صاحب الدين والعولمة، والدين والعولمة والثقافة)، وستيف بروس (السياسات والدين)، وريبكا ألبرت (أصوات اليسار الدينى).

صفوة القول: لقد حاولنا من خلال المثال السابق التدليل على أن الماكينة الإبداعية للعقل الإنسانى لا تتوقف عن الاجتهاد، وإن مواكبتها تحتاج إلى أن نتواصل معها بالترجمة فى إطار البحث العلمى وليس بمعزل عنها من جهة، ومن جهة أخرى امتلاك مشروعات الترجمة المؤسسية والفردية يحتاج إلى:

■ خريطة معرفية ترسم مسيرة المدارس العلمية المختلفة وموجاتها المتعاقبة، ورموزها المؤثرين/ المبدعين، كذلك مسيرة المصطلحات وتطورها وعلاقة هذه المصطلحات بمصطلحات أخرى.. فهل يمكن أن نتحدث عن الحداثة ونحن لم نترجم مؤلفات أنتونى جيدنز المعتبرة.. ترجمنا كتاباته ذات الطابع السياسى (الطريق الثالث، وبعيدا عن اليمين واليسار).. أو نتحدث عن الطبقة الوسطى ونحن لم نترجم المراجعات التى تمت فى هذا الشأن مؤخرا(هيلموت لانج ولارس ميير، وديريك واين).. أو أن نتحدث عن مصطلحات مثل المواطنة (وقد تحدثنا عن مسارها العلمى الأسبوع الماضى) والدولة الحديثة (كتابات بييرسون، وموريس، ومارينيتو..)، ونحن لا نعرف جديدها؟!.. إن أهمية ما نقول تكمن فى أن هناك كثيراً من الإشكاليات فى واقعنا سوف نجد لها مقاربات فى هذه الكتابات خاصة أن بعضها تناول واقعنا.. وسوف تستنفر قدراتنا الإبداعية ولاشك. من هنا حاجتنا إلى الترجمة للتواصل مع العصر والتقدم..

 
طباعة
0
0
0
s2smodern
powered by social2s